الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا .

هذا استدراك على معنى أثاره الكلام : لأن ما تقدم من قوله يسألك أهل الكتاب مسوق مساق بيان تعنتهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحة نسبة القرآن إلى الله تعالى ، فكان هذا المعنى يستلزم أنهم يأبون من الشهادة بصدق الرسول ، وأن ذلك يحزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء الاستدراك بقوله ( لكن الله يشهد ) . فإن الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه . والمعنى : لم يشهد أهل الكتاب لكن الله شهد وشهادة الله خير من شهادتهم .

وقد مضى عند قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم في سورة البقرة ، أن حقيقة الشهادة إخبار لتصديق مخبر ، وتكذيب مخبر آخر . وتقدم أنها تطلق على الخبر المحقق الذي لا يتطرقه الشك عند قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو في سورة آل عمران . فالشهادة في قوله ( لكن الله يشهد ) أطلقت على الإخبار بنزول القرآن من الله إطلاقا مجازيا ، لأن هذا الخبر تضمن تصديق الرسول وتكذيب معانديه ، وهو إطلاق على وجه الاستعارة من الإطلاق الحقيقي هو غير الإطلاق الذي في قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو فإنه على طريقة المجاز المرسل . وعطف شهادة الملائكة على شهادة الله : لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدد الشهود ، ولأن شهادة الله مجاز في العلم وشهادة الملائكة [ ص: 45 ] حقيقة . وإظهار فعل ( يشهدون ) مع وجود حرف العطف للتأكيد . وحرف ( لكن ) بسكون النون مخفف ( لكن ) المشددة النون التي هي من أخوات ( إن ) وإذا خففت بطل عملها .

وقوله وكفى بالله شهيدا يجري على الاحتمالين .

وقوله بما أنزل إليك أنزله بعلمه وقع تحويل في تركيب الجملة لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ، ليكون أوقع في النفس . وأصل الكلام : يشهد بإنزال ما أنزله إليك بعلمه ، لأن قوله ( بما أنزل إليك ) لم يفد المشهود به إلا ضمنا مع المشهود فيه إذ جيء باسم الموصول ليوصل بصلة فيها إيماء إلى المقصود ، ومع ذلك لم يذكر المقصود من الشهادة الذي هو حق مدخول الباء بعد مادة شهد ، فتكون جملة ( أنزله بعلمه ) مكملة معنى الشهادة . وهذا قريب من التحويل الذي يستعمله العرب في تمييز النسبة . وقال الزمخشري : موقع قوله ( أنزله بعلمه ) من قوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك موقع الجملة المفسرة ؛ لأنه بيان للشهادة وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز . فلعله يجعل جملة لكن الله يشهد بما أنزل إليك مستقلة بالفائدة ، وأن معنى ( بما أنزل إليك ) بصحة ما أنزل إليك ، وما ذكرته أعرق في البلاغة .

ومعنى ( أنزله بعلمه ) أي متلبسا بعلمه ، أي بالغا الغاية في باب الكتب السماوية ، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى ، ومعنى ذلك أنه معجز لفظا ومعنى ، فكما أعجز البلغاء من أهل اللسان أعجز العلماء من أهل الحقائق العالية .

والباء في قوله وكفى بالله شهيدا زائدة للتأكيد ، وأصله : كفى الله شهيدا كقوله :


كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

أو يضمن ( كفى ) معنى اقتنعوا ، فتكون الباء للتعدية .

التالي السابق


الخدمات العلمية