الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن اشترى أتانا مصراة ، فإن قلنا بقول الإصطخري : إن لبنها طاهر ، ردها ورد معها بدل اللبن كالشاة ( وإن قلنا ) بالمنصوص : إنه نجس ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه يردها ولا يرد بدل اللبن ; لأنه لا قيمة له ، فلا يقابل ببدل ( والثاني ) يمسكها ويأخذ الأرش ; لأنه لا يمكن ردها مع البدل ; لأنه لا بدل له ولا ردها من غير بدل لما فيه من إسقاط [ ص: 276 ] حق البائع من لبنها ، ولا إمساكها بالثمن ; لأنه لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان مع اللبن ولم تسلم ، فوجب أن تمسك ويأخذ الأرش ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الأتان الأنثى من الحمر ، وقول الإصطخري رحمه الله بطهارة لبنها معروف مشهور ، وهو يقول بطهارته وحل تناوله ، وعده الإمام من هفوات بعض الأئمة . وحكى الإمام أن من أصحابنا من حكم بطهارة لبنها وحرمته وهذا بعيد ، والمذهب نجاسته وقد تقدم أن تصرية الأتان هل هي عيب أم لا ؟ على وجهين ، وقال الشيخ أبو حامد : إنه لا خلاف في أنها عيب كما تقدم أنه مثل ذلك في الجارية ، إذا عرف ذلك ففي حكم تصرية الأتان طرق . ( إحداها ) ما ذكره المصنف رحمه الله أنه إن قلنا بطهارة لبنها ردها ، ورد بدل اللبن ( وإن قلنا ) بنجاسته فقيل : يردها ولا يرد معها شيئا . وقيل ، يمسكها ويأخذ الأرش ، وممن ذكر هذه الطريقة الشيخ أبو حامد .

                                      ( الطريقة الثانية ) التي ذكرها الماوردي من العراقيين ، والقاضي حسين من الخراسانيين : أنه هل يرد أو لا يرد ؟ في المسألة وجهان ( فإن قلنا ) بنجاسة لبنها ردها ولا يرد معها شيئا ( وإن قلنا ) بطهارة لبنها . وهو قول الإصطخري . فهل يرد معها صاعا من تمر ؟ على وجهين كالجارية وإناث الخيل . وهذه عكس ما ذكره المصنف رحمه الله ( والطريقة الثالثة ) التي ذكرها الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب الجزم بردها وتخريج رد بدل اللبن على الخلاف ( فإن قلنا ) بطهارته رد بدله صاعا من تمر ( وإن قلنا ) بنجاسته لا يرد ; لأن النجس لا بدل له ولا قيمة ، وهذه تخالف طريقة الماوردي فإن الماوردي يتردد في رد بدل اللبن على القول بطهارته ، وأبو حامد وأبو الطيب جازمان به ، وتخالف طريقة المصنف رحمه الله في قوله : إنه يمسكها ويأخذ الأرش ، وقد نقل الشاشي عن القاضي أبي الطيب أن الأوجه التي في الجارية في الأتان على قول الإصطخري فهذه الطرق الثلاثة في طريقة العراقيين وبعضها في كلام الخراسانيين كما تقدم . ( والطريقة الرابعة ) التي ارتضاها الإمام أنه إن قلنا : اللبن نجس فلا يقابل بشيء ، ولكن لا يبعد إثبات الخيار ; إذ قد يقصد [ ص: 277 ] غزارة لبنها لمكان الجحش ، فيلتحق هذا الخيار بقبول التردد ، وإن حكمنا بأنه طاهر فكذلك ، فإن اللبن المحرم لا يتقوم وإن حكمنا بحله فالقول في تصرية الأتان كالقول في تصرية الجارية ، وقد تقدم كلامه في الجارية ، وهذه الطريقة توافق طريقة الماوردي في إلحاقها بالجارية على قول طهارة اللبن وحله ، وتخالفها في أن الماوردي لم يحك القول بتحريم اللبن مع طهارته ولا التفريع عليه ، وفي أن الماوردي لم يبن الخلاف في الرد على الخلاف في النجاسة ، وإنما حكى الخلاف في الرد وفي سائر الحيوانات غير الإبل والبقر والغنم . ( فإن قلنا : ) بشمول الحكم للجميع فالماوردي جازم على قولنا بنجاسة اللبن ، يرد الأتان ولا شيء معها ، والإمام مقتضى كلامه التردد في ردها وطريقة الإمام تخالف طريقة المصنف رحمه الله أيضا ، ولأن الإمام لم يتعرض لإمساكها بالأرش ، والمصنف لم يتعرض لطهارة اللبن مع تحريمه ، والله أعلم .

                                      ولم يتعرض ابن عبد السلام في اختصار النهاية لما أشار إليه الإمام من التردد في ثبوت الخيار ، فتخلص من هذه الطرق أربعة أوجه : ( أحدها ) أنه يردها ويرد معها بدل اللبن . ( والثاني ) أنه يردها ولا يرد معها شيئا . وهذا هو الصحيح عند الرافعي وغيره . وهو الذي جزم به المصنف رحمه الله في التنبيه . ( والثالث ) أنه لا يردها ويأخذ الأرش . ( الرابع ) الذي دل عليه كلام الإمام أنه لا يردها ولا شيء له ; لأنه جعل ذلك من صور الخلاف . ومراده به إلحاقه بالمرتبة المتوسطة بين المراتب الثلاث التي تقدمت الإشارة إليها ، ويأتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند كلام المصنف رحمه الله في تجعيد شعر الجارية . وإذا كان كذلك فيقتضي كلام الإمام المذكور إثبات وجه كما قلناه أنه لا خيار له . وكذلك يقتضيه كلام الماوردي حيث ألحق الأتان بالجارية . وحيث حكى الخلاف في سائر الحيوان مطلقا غير الإبل والبقر والغنم . كما تقدم عن البصريين والبغداديين في أن التصرية فيها عيب . أو ليست بعيب . وكلام غيره أيضا . وهذا الوجه ليس مذكورا في كلام المصنف [ ص: 278 ] رحمه الله .

                                      والأوجه الثلاثة التي ذكرها المصنف ذكرها الشيخ أبو حامد أيضا مع قوله أن لا خلاف في أنها عيب . والوجه الرابع القائل بعدم الخيار مستمد من الوجه الذي تقدم عن البصريين أن التصرية في ذلك ليست بعيب . فيجوزون الأوجه الأربعة ، وهي نظير الأوجه الأربعة التي ذكرها المصنف رحمه الله في الجارية وإن كانت المآخذ مختلفة . وقال ابن أبي عصرون على قول الإصطخري بعد أن حكى كلام الأصحاب . وقولهم في التفريع عليه : إنه يرد مثل بدل لبن الشاة قال : وعندي ينبغي أن يرد الأرش ; لأن لبنها لا يساوي لبن الأنعام ولا يلحق به في تقدير بدله . كما أن جنين البهيمة لما لم يساو جنين الآدمية ضمن بها ويقضي من قيمة الأم . وهذا الذي ذكره لو ثبت كان زائدا على الأوجه الأربعة لكنه بعيد ; لأنه على القول بطهارته وجعله مما يقابل بالعوض لا يفارق لبن الأنعام وإن كانت أنقص قيمة منها فإن بعض الأنعام لبنها أنقص قيمة من بعض ، ولا اعتبار بذلك ويلزمه أن يقول بذلك في الجارية ، ولم يقل به هناك ، بل قال : إن الأقيس أنه يجب رد بدله ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قول المصنف رحمه الله " لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان مع اللبن " وكذا قوله فيما تقدم في الجارية " ولم يبذل الثمن إلا ليسلم له ما دلس به من اللبن " رأيتها مضبوطة في بعض النسخ - بضم التاء وفتح السين وتشديد اللام المفتوحة - والأحسن أن يقرأ - بفتح التاء وإسكان السين وفتح اللام المخففة - فإن البائع سلم الأتان مع اللبن ، ولكن حصلت في ذلك السلامة للمشتري .

                                      ( فرع ) جزم المصنف في التنبيه بأنه يرد الأتان ، ولا يرد بدل اللبن وتردد في رد الجارية مع الجزم فيها بأنه لا يرد بدل اللبن ، فأما جزمه برد الأتان وتردده في رد الجارية فلأن لبن الأتان مقصود ولا يساويه لبن الجارية في ذلك ، وعلى قوله في المهذب : إنه لا يرد قال : إنه بأخذ الأرش يكون اللبن في الأتان مقصودا فلم يتردد قوله لا في المهذب ولا في التنبيه في أن لبن الأتان مقصود ، ولكن امتناع رد بدله على الصحيح لأجل نجاسته وإن كنا قد حكينا عن غير [ ص: 279 ] المصنف رحمه الله وجها رابعا بعدم الرد مطلقا وذلك يلزم منه القول بأنه غير مقصود . وأما جزمه في التنبيه بأنه لا يرد بدل لبن الأتان ، فإنه تفريع على المذهب في نجاسته ، وزعم ابن الرفعة أن ذلك سواء قلنا بنجاسته أو بطهارته كما ذهب إليه الإصطخري ، قال : وقيل على القول بطهارته يجب الصاع ، وهذا الذي قاله ابن الرفعة وإن كان الخلاف ثابتا فيه كما تقدم ، لكن لا يحسن أن نشرح به كلام التنبيه ; لأن صاحبه في المهذب جازم على قول الإصطخري : يرد بدل اللبن ، فيجب حمل كلامه في التنبيه على المذهب ، فيكون موافقا لذلك ، ليس ذلك مما اختلفت فيه الطريقان حتى يحمل كلامه في التنبيه على طريقة وكلامه في المهذب على طريقة أخرى ، وقد تبين لك الطرق المذكورة في ذلك ، والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية