الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 524 ] ( مسائل شتى )

قال ( وإذا قرئ على الأخرس كتاب وصيته فقيل له أنشهد عليك بما في هذا الكتاب فأومأ برأسه : أي نعم أو كتب ، فإذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار فهو جائز ، ولا يجوز ذلك في الذي يعتقل لسانه ) وقال الشافعي : يجوز في الوجهين لأن المجوز إنما هو العجز وقد شمل الفصلين ، ولا فرق بين الأصلي والعارضي كالوحشي والمتوحش من الأهلي في حق الذكاة ، والفرق لأصحابنا رحمهم الله أن الإشارة إنما تعتبر إذا صارت معهودة معلومة وذلك في الأخرس دون المعتقل لسانه . حتى لو امتد ذلك وصارت له إشارات معلومة قالوا هو بمنزلة الأخرس ، ولأن التفريط جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت ، أما الأخرس فلا تفريط منه ، ولأن العارضي على شرف الزوال دون الأصلي فلا ينقاسان ، وفي الآبدة عرفناه بالنص .

[ ص: 525 ] قال ( وإذا كان الأخرس يكتب كتابا أو يومئ إيماء يعرف به فإنه يجوز نكاحه وطلاقه وعتاقه وبيعه وشراؤه ويقتص له ومنه ، ولا يحد ولا يحد له ) أما الكتابة فلأنها ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا ; ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام أدى واجب التبليغ مرة بالعبارة وتارة بالكتابة إلى الغيب ، والمجوز في حق الغائب العجز وهو في حق الأخرس أظهر وألزم .

ثم الكتاب على ثلاث مراتب : مستبين مرسوم وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا . ومستبين غير مرسوم كالكتابة على الجدار وأوراق الأشجار ، وينوي فيه لأنه بمنزلة صريح الكتابة فلا بد من النية . وغير مستبين كالكتابة على الهواء والماء ، وهو بمنزلة كلام غير مسموع فلا يثبت به الحكم . وأما الإشارة فجعلت حجة في حق الأخرس في حق هذه الأحكام للحاجة إلى ذلك لأنها من حقوق العباد ولا تختص بلفظ دون لفظ ، وقد تثبت بدون اللفظ . والقصاص حق العبد أيضا ، ولا حاجة إلى الحدود لأنها حق الله تعالى ، ولأنها تندرئ بالشبهات ، ولعله كان مصدقا للقاذف فلا يحد للشبهة ، [ ص: 526 ] ولا يحد أيضا بالإشارة في القذف لانعدام القذف صريحا وهو الشرط . ثم الفرق بين الحدود والقصاص أن الحد لا يثبت ببيان فيه شبهة ; ألا ترى أنهم لو شهدوا بالوطء الحرام أو أقر بالوطء الحرام لا يجب الحد ، ولو شهدوا بالقتل المطلق أو أقر بمطلق القتل يجب القصاص وإن لم يوجد لفظ التعمد ، وهذا لأن القصاص فيه معنى العوضية لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد .

أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر وليس فيها معنى العوضية فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة .

وذكر في كتاب الإقرار أن الكتاب من الغائب ليس بحجة في قصاص يجب عليه ، ويحتمل أن يكون الجواب هنا كذلك فيكون فيهما روايتان ، ويحتمل أن يكون مفارقا لذلك لأنه يمكن الوصول إلى نطق الغائب في الجملة لقيام أهلية النطق ، ولا كذلك الأخرس لتعذر الوصول إلى النطق للآفة المانعة ، ودلت المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن كان قادرا على الكتابة ، بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا رحمهم الله أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة . [ ص: 527 ] لأنه حجة ضرورية ، ولا ضرورة لأنه جمع هاهنا بينهما فقال : أشار أو كتب ، وإنما استويا لأن كل واحد منهما حجة ضرورية ، وفي الكتابة زيادة بيان لم يوجد في الإشارة ، وفي الإشارة زيادة أثر لم يوجد في الكتاب لما أنه أقرب إلى النطق من آثار الأقلام فاستويا ( وكذلك الذي صمت يوما أو يومين لعارض ) لما بينا في المعتقل لسانه أن آلة النطق قائمة ، وقيل هذا تفسير لمعتقل اللسان .

[ ص: 524 ]

التالي السابق


[ ص: 524 ] مسائل شتى )

قد كانت عادة المصنفين أن يذكروا في آخر الكتاب ما شذ ذكره في الأبواب السالفة من المسائل استدراكا للفائت ، ويترجمون تلك المسائل بمسائل شتى أو بمسائل متفرقة أو بمسائل منثورة ، فعمل المصنف هنا أيضا كذلك جريا على عادتهم .

( قوله وإذا قرئ على الأخرس كتاب وصيته فقيل له نشهد عليك بما في الكتاب فأومأ برأسه : أي نعم أو كتب ، فإذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار فهو جائز ) قال الشراح : وإنما قيد بقوله فإذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار لأن ما يجيء من الأخرس ومعتقل اللسان على نوعين : أحدهما ما يكون ذلك منه دلالة لإنكار ، مثل أن يحرك رأسه عرضا . والثاني ما يكون ذلك منه دلالة الإقرار بأن يحرك رأسه طولا إذا كان ذلك معهودا منه في نعم انتهى . أقول : فيه نظر ، لأنه لما فسر الإيماء برأسه في تقرير المسألة بقوله : أي نعم تعين أن وضعها فيما جاء منه دلالة الإقرار فلم يبق حاجة في تقرير جوابها إلى قوله فإذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار ، بل كان يكفي قوله فهو جائز كما لا يخفى .

( قوله ولأن التفريط جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت ، أما الأخرس فلا تفريط منه ) أقول : لا يذهب عليك أن هذا التعليل يقتضي أن لا يجوز إشارة المعتقل لسانه ، ولو امتد اعتقاله ، لأن تأخير الوصية قد جاء من قبله هناك أيضا مع أنهم قالوا هذا بمنزلة الأخرس في الحكم كما صرح به المصنف فيما [ ص: 525 ] قيل آنفا ، ولعل صاحب الكافي تفطن له حيث طرح هذا التعليل من البين ( قوله أما الكتابة فلأنها ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا إلخ ) أقول : فيه شيء . وهو أن هذا يدل على بعض المدعي ولا يدل على بعضه الآخر ، بل يدل على خلافه ، فإن المدعي أن كتابة الأخرس حجة فيما سوى الحدود وليست بحجة في الحدود ، وهذا الدليل المذكور لا يدل على عدم كونها حجة في الحدود ، إذ لا فارق فيه بين الحدود وما سواها ، بل يدل على كونها حجة في الحدود أيضا إذا كانت مستبينة مرسومة باقتضاء قوله وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا ، فإنه إذا كان بمنزلة النطق في حق الحاضر أيضا لم يكن حجة ضرورية فينبغي أن يكون حجة في الحدود أيضا كما كان النطق حجة فيها أيضا فليتأمل في المخلص .

( قوله وأما الإشارة فجعلت حجة في حق الأخرس في حق هذه الأحكام للحاجة إلى ذلك لأنها من حقوق العباد ) أقول : لقائل أن يقول : من هذه الأحكام الطلاق على ما صرح به في وضع المسألة وهو من حقوق الله تعالى ، لأن فيه تحريم الفرج وهو حق الله تعالى لهذا لم تشترط الدعوى في الشهادة عليه بالاتفاق . كما لم تشترط في الشهادة على عتق الأمة أيضا بالاتفاق بناء على ذلك كما صرحوا به قاطبة ومر في الكتاب أيضا في باب عتق أحد العبدين من كتاب العتاق . فإن قلت : ليس الطلاق من حقوق الله تعالى الصرفة ، بل فيه حق العبد أيضا لتعلق حق الزوجين به فجاز أن يكون مدار قول المصنف لأنها من حقوق العباد على ذلك . قلت : مجرد تحقق حق العبد في شيء لا يكفي في كون إشارة الأخرس حجة فيه ; ألا يرى أن إشارته لا تكون حجة في حق حد القذف مع أن فيه حق العبد وهو دفع العار عن المقذوف . كما أن فيه حق الله تعالى ، بل لا بد في كون إشارته حجة من أن يكون الحكم من حقوق العباد فقط أو مما غلب فيه حق العبد على حق الله تعالى كالقصاص ، لا مما غلب فيه حق الله تعالى على حق العبد كحد القذف عند عامة علمائنا على ما عرف في موضعه ، وكون الطلاق مما غلب فيه حق العبد على حق الله تعالى ممنوع . كيف ولو كان كذلك لما قبلت الشهادة عليه بدون الدعوى ، فإن الدعوى شرط في قبول الشهادة في حقوق العباد ، حتى أن مطالبة [ ص: 526 ] المقذوف شرط في ثبوت حق القذف وإن كان الغالب فيه حق الله تعالى عندنا ، ولهذا لا يصح عفو المقذوف ولا يجوز الاعتياص عنه ولا يجري الإرث فيه عندنا كما مر في الحدود ، فما ظنك بعدم اشتراط الدعوى في ثبوت الطلاق لو كان حق العبد فيه غالبا على حق الله تعالى تفكر .

( قوله وهذا لأن القصاص فيه معنى العوضية لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد ، أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر ، وليس فيها معنى العوضية فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة ) أقول : فيه بحث . أما أولا فلأن ما ذكره هنا من جواز ثبوت القصاص مع الشبهة مخالف لما صرح به فيما مر في عدة مواقع : منها كتاب الكفالة فإنه قال فيه : فلا تجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة ، لأن مبنى الكل على الدرء فلا يجب فيها الاستيثاق . ومنها كتاب الشهادات فإنه قال فيه : ولا تقبل في الحدود والقصاص شهادة النساء ، لأن فيها شبهة البدلية لقيامها مقام شهادة الرجال فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات . ثم قال فيه في باب الشهادة على الشهادة : الشهادة على الشهادة جائزة عندنا في كل حق لا يسقط بالشبهة ولا تقبل فيما يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص ومنها كتاب الوكالة فإنه قال فيه : وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق ، وكذا بإيفائها واستيفائها إلا في الحدود والقصاص .

فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس لأنها تندرئ بالشبهات وشبهة العفو ثابتة حال غيبته . ومنها كتاب الدعوى فإنه قال فيه في باب اليمين : ومن ادعى قصاصا على غيره فجحد استحلف بالإجماع ، ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص ، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر ، وهذا عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف ومحمد : لزمه الأرش فيهما ، لأن النكول إقرار فيه شبهة فلا يثبت به القصاص ويجب به المال . ومنها كتاب الجنايات ، فإنه صرح فيه في مواضع كثيرة منه بعدم ثبوت القصاص بالشبهة بل جعلها أصلا مؤثرا في سقوط القصاص ، وفرع عليه كثيرا من مسائل سقوط القصاص بتحقق نوع من الشبهة في كل واحدة منها كما لا يخفى على الناظر في تمام ذلك الكتاب .

وأما ثانيا فلأن قيد الخالصة في قوله أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر مستدرك بل مخل هنا ، فإن حد القذف غير خالص لله تعالى ، بل فيه حق الله تعالى وحق العبد كما صرحوا به مع أنه أيضا زاجر لا يثبت بالشبهة ، ولا تكون إشارة الأخرس حجة فيه أيضا كما صرح به فيه مر آنفا فلا يتم التقريب بالنظر إليه على التقييد المزبور .

( قوله ودلت المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن كان قادرا على الكتابة . [ ص: 527 ] إلى قوله : لأنه جمع هاهنا بينهما فقال أشار أو كتب ) قال صاحب الغاية : ولنا في دعوى الجمع بينهما نظر ، لأنه قال في الجامع الصغير : وإذا كان الأخرس يكتب أو يومئ وكلمة أو لأحد الشيئين لا للجمع ، على أن نقول : قال في الأصل : وإن كان الأخرس لا يكتب وكانت له إشارة تعرف في نكاحه وطلاقه وشرائه وبيعه فهو جائز ، فيعلم من إشارة رواية الأصل أن الإشارة من الأخرس لا تعتبر مع القدرة على الكتابة لأنه بين حكم إشارة الأخرس بشرط أن يكتب ، فافهم إلى هنا لفظه .

أقول : نظره ساقط جدا ، إذ ليس مراد المصنف بالجمع بينهما الجمع بينهما في كل مادة من مواد إعلام الأخرس ، بل مراده الجمع بينهما في جواز إعلام الأخرس مراده بأي واحد منهما ، ولا شك في دلالة كلمة أو على هذا المعنى لأنها لأحد الأمرين بلا تعيين ، فإذا أتى الأخرس بأي واحد منهما على انفراده يتحقق الإتيان بأحد الأمرين ، ويجوز ذلك بحسب الشرع ، أي يقبل ويعمل به بموجب قول محمد في جواب هذه المسألة فهو جائز ، وأما علاوته التي ذكرها بقوله على أنا نقول إلخ فليست بشيء أيضا ، لأن مراد المصنف دلالة مسألة الجامع الصغير على استواء الإشارة والكتابة من الأخرس ومعنى قوله لأنه جمع هاهنا بينهما أنه جمع في الجامع الصغير بينهما كما صرح به الشارح المذكور حيث قال في شرح قوله لأنه جمع هنا بينهما : أي جمع في الجامع الصغير بين الإشارة والكتابة ، ولا ريب أن هذا لا ينافي إشارة مسألة الأصل إلى أن إشارة الأخرس لا تعتبر مع القدرة على الكتابة ، غاية الأمر أن يكون في المسألة روايتان ومثل ذلك كثير .

فإن قلت : فعلى هذا كيف يتم قول المصنف بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة فإن ما ذهب إليه ذلك البعض من أصحابنا يكون حينئذ مبنيا على رواية الأصل ، فما معنى نسبة التوهم إليهم ؟ قلت : مراد المصنف بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة أصلا : أي في رواية ما . ولك أن تقول : يجوز أن يكون نسبة التوهم إليهم بالنظر إلى الدراية دون الرواية تأمل




الخدمات العلمية