الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب القول في صحة الإجماع قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس قال أهل اللغة : الوسط : العدل ، وهو الذي بين المقصر والغالي . وقيل : هو الخيار والمعنى واحد ؛ لأن العدل هو الخيار ،

قال زهير : [ ص: 109 ]

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم

وقوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس معناه كي تكونوا ، ولأن تكونوا كذلك . وقيل في الشهداء : إنهم يشهدون على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها في الدنيا والآخرة ، كقوله تعالى : وجيء بالنبيين والشهداء وقيل فيه : إنهم يشهدون للأنبياء عليهم السلام وعلى أممهم المكذبين بأنهم قد بلغوهم لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وقيل : لتكونوا حجة فيما تشهدون كما أن النبي صلى الله عليه وسلم شهيد بمعنى حجة دون كل واحد منها .

قال أبو بكر : وكل هذه المعاني يحتملها اللفظ ، وجائز أن يكون بأجمعها مراد الله تعالى ، فيشهدون على الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة ، ويشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتكذيب لإخبار الله تعالى إياهم بذلك وهم مع ذلك حجة على من جاء بعدهم في نقل الشريعة وفيما حكموا به واعتقدوه من أحكام الله تعالى وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجهين :

أحدهما : وصفه إياها بالعدالة وأنها خيار ، وذلك يقتضي تصديقها والحكم بصحة قولها وناف لإجماعها على الضلال .

والوجه الآخر قوله : لتكونوا شهداء على الناس بمعنى الحجة عليهم ، كما أن الرسول لما كان حجة عليهم وصفه بأنه شهيد عليهم ، ولما جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم فقد حكم لهم بالعدالة وقبول القول ؛ لأن شهداء الله تعالى لا يكونون كفارا ولا ضلالا ، فاقتضت الآية أن يكونوا شهداء في الآخرة على من شاهدوا في كل عصر بأعمالهم دون من مات قبل زمنهم ، كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا على من كان في عصره .

هذا إذا أريد بالشهادة عليهم بأعمالهم في الآخرة ، فأما إذا أريد بالشهادة الحجة فذلك حجة على من شاهدوهم من أهل العصر الثاني وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حجة على جميع الأمة أولها وآخرها ولأن حجة الله إذا ثبتت في وقت فهي ثابتة أبدا .

ويدلك على فرق ما بين الشهادة على الأعمال في الآخرة والشهادة التي هي الحجة قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا لما أراد الشهادة على أعمالهم خص أهل عصره ومن شاهده بها ، وكما قال تعالى حاكيا عن عيسى صلوات الله عليه : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم فتبين أن الشهادة بالأعمال إنما هي مخصوصة بحال الشهادة ، وأما الشهادة التي هي الحجة فلا تختص بها أول الأمة وآخرها في كون النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليهم .

كذلك أهل كل عصر لما كانوا شهداء الله من [ ص: 110 ] طريق الحجة وجب أن يكونوا حجة على أهل عصرهم الداخلين معهم في إجماعهم وعلى من بعدهم من سائر أهل الأعصار .

فهو يدل على أن أهل عصر إذا أجمعوا على شيء ثم خرج بعضهم عن اجماعهم أنه محجوج بالإجماع المتقدم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لهذه الجماعة بصحة قولها وجعلها حجة ودليلا ، فالخارج عنها بعد ذلك تارك لحكم دليله وحجته ؛ إذ غير جائز وجود دليل الله تعالى عاريا من مدلوله ، ويستحيل وجود النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيترك حكمه من طريق النسخ ، فدل ذلك على أن الإجماع في أي حال حصل من الأمة فهو حجة الله عز وجل غير سائغ لأحد تركه ولا الخروج عنه .

ومن حيث دلت الآية على صحة إجماع الصدر الأول ، فهي دالة على صحة إجماع أهل الأعصار ، إذ لم يخصص بذلك أهل عصر دون عصر . ولو جاز الاقتصار بحكم الآية على إجماع الصدر الأول دون أهل سائر الأعصار لجاز الاقتصار به على إجماع أهل سائر الأعصار دون الصدر الأول .

فإن قال قائل : لما قال : وكذلك جعلناكم أمة وسطا فوجه الخطاب إلى الموجودين في حال نزوله ، دل ذلك على أنهم هم المخصوصون به دون غيرهم ، فلا يدخلون في حكمهم إلا بدلالة قيل له : هذا غلط ؛ لأن قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا هو خطاب لجميع الأمة : أولها وآخرها ، من كان منهم موجودا في وقت نزول الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة ، كما أن قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم وقوله : كتب عليكم القصاص ونحو ذلك من الآي خطاب لجميع الأمة ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى جميعها : من كان منهم موجودا في عصره ومن جاء بعده .

قال الله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وقال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وما أحسب مسلما يستجيز إطلاق القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مبعوثا إلى جميع الأمة أولها وآخرها ، وأنه لم يكن حجة عليها وشاهدا ، وأنه لم يكن رحمة لكافتها .

فإن قال قائل : لما قال الله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا واسم الأمة يتناول الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة ، فإنما حكم لجماعتها بالعدالة وقبول الشهادة ، وليس فيه حكم لأهل عصر واحد بالعدالة وقبول الشهادة ، فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم ؟

قيل له : لما جعل من حكم له بالعدالة حجة على غيره فيما يخبر به أو يعتقده من أحكام الله تعالى ، وكان معلوما أن ذلك صفة قد حصلت له في الدنيا وأخبر [ ص: 111 ] تعالى بأنهم شهداء على الناس ، فلو اعتبر أول الأمة وآخرها في كونها حجة له عليهم ، لعلمنا أن المراد أهل كل عصر ؛ لأن أهل كل عصر يجوز أن يسموا أمة ؛ إذ كانت الأمة اسما للجماعة التي تؤم جهة واحدة ، وأهل كل عصر على حيالهم يتناولهم هذا الاسم ، وليس يمنع إطلاق لفظ الأمة والمراد أهل عصر ، ألا ترى أنك تقول أجمعت الأمة على تحريم الله تعالى الأمهات والأخوات ، ونقلت الأمة القرآن .

ويكون ذلك إطلاقا صحيحا قبل أن يوجد آخر القوم ؟ فثبت بذلك أن مراد الله تعالى بذلك أهل كل عصر . وأيضا فإنما قال الله تعالى : جعلناكم أمة وسطا فعبر عنهم بلفظ منكر حين وصفهم بهذه الصفة وجعلهم حجة ، وهذا يقتضي أهل كل عصر ؛ إذ كان قوله : جعلناكم خطابا للجميع ، والصفة لاحقة بكل أمة من المخاطبين .

ألا ترى إلى قوله : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وجميع قوم موسى أمة له وسمى بعضهم على الانفراد أمة لما وصفهم بما وصفهم به ؟ فثبت بذلك أن أهل كل عصر جائز أن يسموا أمة وإن كان الاسم قد يلحق أول الأمة وآخرها وفي الآية دلالة على أن من ظهر كفره نحو المشبهة به ؟ ومن صرح بالجبر وعرف ذلك منه ، لا يعتد به في الإجماع . وكذلك من ظهر فسقه لا يعتد به في الإجماع ، من نحو الخوارج والروافض .

وسواء من فسق من طريق الفعل أو من طريق الاعتقاد ؛ لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخير ، وهذه الصفة لا تلحق الكفار ولا الفساق . ولا يختلف في ذلك حكم من فسق أو كفر بالتأويل أو برد النص ؛ إذ الجميع شملهم صفة الذم ولا يلحقهم صفة العدالة بحال والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية