الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الثامن والتاسع : " من ، وما " الشرطيتين أو الاستفهاميتين . كقوله تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه } { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } وقوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } { وما تلك بيمينك يا موسى } وهما من صيغ العموم ، بل هما عند الإمام في أعلى صيغة .

                                                      قال صاحب المحكم : " من " اسم يغني عن الكلام الكثير المتناهي في التضاد والطول ، فإذا قلت : من يقم أقم معه ، كان كافيا عن ذكر جميع الناس ، ولولا " من " لاحتجت إلى ذكر الأفراد ، ثم لا تجد إلى ذلك سبيلا . أما الشرطيتان فبالاتفاق ، وأما الاستفهاميتان فكذلك عند الجمهور ، منهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وسليم الرازي في " التقريب " وابن السمعاني [ ص: 99 ] وابن الصباغ وغيرهم من أصحابنا ، وأبو بكر الرازي والبزدوي من الحنفية والقرطبي والإبياري من المالكية ، واختاره الآمدي والإمام فخر الدين والهندي . وظاهر كلام إمام الحرمين أنهما ليسا من العموم ، فإنه قيد " من " بالشرطية ، ذكره في مسألة عمومها للمذكر والمؤنث ، ومقتضى كلام الجميع أنهما إذا كانتا موصولتين فليستا للعموم ، وبه صرح الأستاذ أبو منصور البغدادي ، فقال : وإن كانتا بمعنى " الذي والتي " فهما حينئذ معرفة ، وليستا للجنس ، ولكن ربما تناولا في المعرفة واحدا وربما تناولا جمعا ، كقوله تعالى : { ومنهم من يستمعون إليك } وكذلك قال سليم الرازي في " التقريب " فإن وردا معرفتين بمعنى الذي لم يدلا على العموم ، هذا لفظه ، وهو ظاهر ، كلام القاضي عبد الوهاب في " الملخص " ، والقاضي أبي بكر في " التقريب " ، فإنهما قيدا العموم بالشرطيتين والاستفهاميتي فقط . لكن مثل الغزالي في " المستصفى " لعموم " من " بقوله عليه السلام : { على اليد ما أخذت حتى تؤديه } وهو تصريح بعموم الموصولة ، وهو [ ص: 100 ] لازم للجميع في مسألة تأخير البيان في قوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله } وسؤال ابن الزبعرى ، وعليه جرى القرافي وابن الحاجب وابن الساعاتي والصفي الهندي ، ونقله القرافي عن صاحب " التلخيص " يعني النقشواني ، وأنكر ذلك الأصفهاني ، وقال : وجدت كتاب " التلخيص " مصرحا بخلاف ذلك ، وأنهما إذا كانتا موصولتين ليستا للعموم .

                                                      وقال بعض الحنفية " من " تعم في الشرط والاستفهام عموم الأفراد ، وفي الخبر بمعنى الموصولة عموم الشمول ، فإذا قلت : من زارني فأعطه درهما استحق كل من زاره العطية ; وإذا قال : أعط من في هذه الدار درهما ، استحق الكل درهما واحدا . وقد استشكل قولنا : من للعموم بأمرين :

                                                      أحدهما : بقولنا : من في الدار ؟ فإنه يحسن الجواب بزيد ، وحينئذ فالعموم كيف ينطبق عليه زيد ؟ وذلك يقتضي أن الصيغة ليست العموم ، وكذلك : ما عندك ؟ فتقول : درهم .

                                                      وأجاب القرافي بأن العموم إنما هو باعتبار حكم الاستفهام ، لا باعتبار الكون في الدار ، والاستفهام عم جميع المراتب ، وكأن المستفهم قال : [ ص: 101 ] سألتك عن كل أحد يتصور أن يكون في الدار لا أخص سؤالي بنوع دون نوع ، والواقع من ذلك قد يكون فردا أو أكثر ، فالعموم ليس باعتبار الوقوع ; بل باعتبار الاستفهام .

                                                      الأمر الثاني : قول الفقهاء في كتاب الطلاق : إذا علق الحكم بلفظ " من " اقتضى مشروطه مرة ، ولم يتكرر الحكم بتكرر الفعل ، كما لو قال : من دخل داري فله درهم ، ودخلها مرة واحدة استحقه ، ولم يستحق شيئا آخر بدخوله بعده ، وكذا لو قال لنسائه : من دخلت منكن فهي طالق ، فدخلت واحدة منهن مرة طلقت واحدة ، ولم تطلق بدخول آخر . الجواب أن " من " وغيرها من أدوات الشرط إنما تقتضي عموم الأشخاص ، لا عموم الأفعال ، فلهذا لم يتعدد الطلاق لتعدد الدخول ، فإنها تقتضي وجود الجزاء عند وجود الشرط ، أما التكرار فلا تقتضيه ، إلا أنه قد يتحقق التكرار في بعض المواضع بواسطة قياس ، أو فهم أن الشرط علة فإن الأصل ترتيب الحكم على علته ، فلزم التكرار كقوله تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه } { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } أما الألفاظ الموضوعة لعموم الأفعال فهي : " كلما ، ومتى ، وما ، ومهما " ، فإذا علق بشيء منها اقتضى التكرار .

                                                      وقد قال الأصحاب : لو قتل المحرم صيدا بعد صيد وجب لكل منهما جزاء ، وأورد عليه أن الله تعالى ذكر الجزاء في قتل الصيد ، وعلقه بلفظ [ ص: 102 ] من " بقوله : { ومن قتله منكم متعمدا } والمعلق بلفظ " من " لا يتكرر فيه الجزاء بتكرر الشرط ، نحو من دخل داري فله درهم ، لا يتكرر الاستحقاق بتكرر الدخول . وأجاب جماعة منهم الماوردي ، والمحاملي ، والجرجاني ، في باب الحج من المعاياة ، فقالوا : إنما لم يتكرر الحكم بتكرر الفعل إذا كان الفعل الثاني واقعا في محل الفعل الأول ، كالمثال السابق ، فأما إذا كان الفعل الثاني في غير محل الفعل الأول فيتكرر ، كما لو قال من دخل داري فله درهم ، وله عدة دور ، فدخل دارا له استحق درهما ، ثم لو دخل دارا أخرى استحق درهما آخر لما كانت الدار الثانية غير الأولى ، كذلك هاهنا ، لما كان الصيد الثاني غير الأول تعلق به ما تعلق بالأول ، يريد في قوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } ووقع في كلام المحاملي وبعض نسخ " الحاوي " تمثيل تعدد المحل بقوله : من دخل دوري ، وهو أقرب ، وفيما قالوه نظر ; بل ينبغي في هذا أنه لا يستحق إلا عند دخوله جميع الدور ; لأن الجزاء تعلق بالجميع ، وقال " الماوردي في الحاوي " : إذا اشترك جمع في قتل صيد ، فعليهم جزاء واحد .

                                                      وقال مالك وأبو حنيفة على كل منهم جزاء لقوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء } ولفظة " من " إذا علق عليها الجزاء استوى حال الجماعة والواحد في استحقاقه ، كقوله : من دخل داري فله درهم ، فدخلها واحد استحقه ، أو جماعة استحق كل واحد منهم درهما .

                                                      قال : الماوردي : وأما عندنا فالشرط إذا علق عليه الجزاء بلفظ " من " [ ص: 103 ] إذا كان موجودا من كل واحد من الجماعة استحق كل واحد منهم جزاء كاملا ، نحو من دخل داري فله درهم ، فلكل واحد منهم درهم ، لأن الدخول موجود من كل واحد منهم . وإن كان الشرط موجودا من جماعتهم ، فالجزاء يستحق من جماعتهم دون كل واحد منهم ، كقوله : من جاء بعبدي الآبق فله درهم ، ومن شال الحجر فله درهم ، فإذا اشترك جماعة في المجيء بالآبق وشيل الحجر وجب أن يكون الجزاء مستحقا بين جماعتهم دون كل واحد منهم . واعلم أن " من " تصلح للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ; لكن هل العموم في جميع هذه المراتب أو في الآحاد ؟ فيه نظر لبعض المتأخرين ، قال : ويظهر فيما إذا قال : من دخل داري من هؤلاء فأعطه درهما ، فإن قلنا بالأول أخذ كل واحد درهما ، وإن قلنا بالثاني أخذ كل واحد درهما بدخوله وحده ، ونصف درهم بدخوله مع الآخر ، وإن دخل ثلاثة ، فعلى الأول يعطيهم ثلاثة ، لكل واحد درهما ، وعلى الثاني يعطيهم ثلاثة إلى الآحاد كل واحد درهما ، ودرهما بدخول الثلاثة ، لكل واحد ثلاثة ، وثلاثة لأن صفة الاثنينية ثلاث مرات ، فيستحقون بها ثلاثة ، لكل درهم ، فمجموع ما يستحقونه سبعة ، وعلى هذا القياس .

                                                      ( تنبيه ) أطلقوا أن " من " للعموم في العقلاء ، وينبغي تقييده بشيئين : أحدهما : أن يكون الفعل الذي دخلت عليه صالحا لكل فرد [ ص: 104 ] ليخرج ، ما لو قال الأمير : من غزا معي فله دينار ، قال في " الكفاية " في باب السير : خرج منه أهل الفيء . قال الماوردي : ويخرج النساء ، بخلاف قوله : من قاتل معي فله دينار ; لأن الغزو حكم لا فعل يتوجه لأهله ، ويخرج الصبيان منها ، لأن الجعالة عقد وهي لا تصح منهم ، وكذا العبد بلا إذن السيد ، لوجود الحجر . الثاني : أن لا يكون الفعل المسند إليها لواحد ، ليخرج ما لو قال الموكل لوكيله طلق من نسائي من شئت . قال القاضي في تعليقه : لا يطلق الوكيل إلا واحدة في أصح القولين ، بخلاف ما إذا قال : طلق من نسائي من شاءت ، فله أن يطلق من شاءت الطلاق ، وجرى عليه النووي في " زوائده " في كتاب الوكالة ، والفرق أن التخصيص بالمشيئة مضاف إلى واحد ، فإذا اختار واحدة سقط اختياره ، وفي الثانية الاختيار مضاف إلى جماعة ، فكل من اختارت طلقت . وقولهم : " من " للعموم في العقلاء ، وإن أرادوا أصل وضع اللغة فصحيح ، وإلا فيجوز استعمال " من " لغير العقلاء ، وحينئذ فالعموم مراد فيها ، كقوله تعالى { ولله يسجد من في السماوات والأرض } .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية