الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا ابتاع جارية قد جعد شعرها ثم بان أنها سبطة ، أو سود شعرها ثم بان بياض شعرها أو حمر وجهها ثم بان صفرة وجهها ، ثبت له الرد ; لأنه تدليس بما يختلف به الثمن فثبت به الخيار كالتصرية ، وإن سبط شعرها ثم بان أنها جعدة ففيه وجهان : ( أحدهما ) لا خيار له ; لأن الجعدة أكمل وأكثر ثمنا . ( والثاني ) أنه يثبت له الخيار ; لأنه قد تكون السبطة أحب إليه وأحسن عنده ، وهذا لا يصح ; لأنه لا اعتبار به وإنما الاعتبار بما يزيد في الثمن ، والجعدة أكثر ثمنا من السبطة ، وإن ابتاع صبرة ثم بان أنها كانت على صخرة ، أو بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة ثبت له الرد لما ذكرناه من العلة في المسألة قبلها ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الفصل يتضمن مسائل من التغرير الفعلي ملحقة بالمصراة ، إما بلا خلاف وإما على وجه ، وقد كنت أشرت فيما تقدم إلى ذلك على ثلاث مراتب ووعدت بذكرها ههنا ، ولنجعل ذلك مقدمة على مسائل الفصل . قالالإمام : إن أئمة المذهب نصوا بأن كل تلبيس حال محل التصرية من البهيمة إذا فرض اختلاف فيه ثبت الخيار ، فلو جعد الرجل شعرا تجعيدا لا يتميز عن تجعيد الخلقة . ثم زال ذلك ثبت الخيار للمشتري ، فنزلوا التجعيد منزلة اشتراط الجعودة ، وقد طردت في هذا مسلكا في الأساليب ، وإذا جرى الحالف بشيء لا ظهور له فلا مبالاة به ، كما إذا كان على ثوب العبد نقطة من مداد فهذا [ ص: 283 ] لا ينزل منزلة شرط كونه كاتبا ، ولو كان وقع المداد بحيث يعد من منزلة أن صاحب الثوب ممن يتعاطى الكتابة ، فإذا أخلف الظن ففي ثبوت الخيار وجهان وإذا بنى الأمر على ظهور شيء في العادة فما تناهى ظهوره يتأصل في الباب وما لا يظهر يخرج عنه ، وما يتردد بين الطرفين يختلف الأصحاب فيه . هذا كلام الإمام ، وهو منبه على المراتب الثلاث التي يثبت الخيار فيها جزما والتي لا يثبت جزما ، والتي يتردد فيها ، ولم يذكر المصنف المرتبة التي يجزم بعدم الخيار فيها اقتصارا منه على ما يلحق بالتصرية جزما أو على وجه ، إذا عرف ذلك فقد ذكر المصنف رحمه الله من المرتبة الأولى أمثلة . ( منها ) إذا اشترى جارية قد جعد شعرها ثم بان أنها سبطة اتفق الأصحاب على ثبوت الخيار قياسا على المصراة ; لأن الغرض يختلف بالجعودة والسبوطة ( وأيضا ) الجعودة قيل : إنها تدل على قوة الجسد ، والسبوطة تدل على ضعفه ، وللمسألة شرطان :

                                      ( أحدهما ) أن يكون المشتري قد رأى الشعر ، فلو لم يره ففي صحة العقد وجهان : ( أحدهما ) وبه قال الأكثرون وابن أبي هريرة : أنه لا يصح ويكون كبيع الغائب ( والثاني ) وبه قال القفال وجماعة ، وهو الأصح عند الماوردي الصحة ، فعلى الأول لا تأتي المسألة ، وعلى الثاني إذا لم يره لا يثبت الخيار إلا إذا شرط . وقد قال الشافعي رحمه الله في المختصر : ولو اشتراها جعدة فوجدها سبطة فله الرد فالأكثرون حملوه على مسألة الكتاب إذا كان البائع قد جعد شعرها بناء على الصحيح عندهم أنه لا بد من رؤية الشعر ، وعلى الوجه الثاني يحتمل ذلك ويحتمل أن يكون المراد ما إذا شرط أنها جعدة ، وفي كلام الرافعي ما يقتضي جواز حمله على الاشتراط . وإن فرعنا على الأصح ; لأن الشعر قد يرى ولا يعرف جعوده وسبوطته لعروض ما يستوي الحالتان عنده من الابتلال وقرب العهد بالتسريح ونحوهما ، ففي كون المسألة منصوصة للشافعي لهذا الاحتمال ، وعلى كل حال لا خلاف في المذهب فيها . [ ص: 284 ] قال القاضي حسين في رؤية الشعر : نشأ من اختلاف أصحابنا في قول الشافعي رحمه الله : " ولو اشتراها جعدة فوجدها سبطة فله الرد " من أصحابنا من حمله على الشرط ، ومنهم من قال : أراد إذا جعد شعرها بالتدليس .

                                      ( الشرط الثاني ) ما تقدم عن الإمام أن التجعيد يكون بحيث لا يتميز عن تجعيد الخلقة ، والأكثرون ساكتون عن ذلك ، ولا شك أنه إذا كان التجعيد يسيرا بحيث يظهر لغالب الناس أنه مصنوع ، فالمشتري منسوب إلى تفريط ، أما إذا كان التجعيد بحيث يوهم كونه خلقيا ، فهذا هو المثبت للخيار ، وهو مراد الأصحاب ( وشرط ثالث ) فيه نزاع أن يكون ذلك تجعيد البائع أو غيره بإذنه فلو تجعد بنفسه جزم الفوراني في الإبانة بعدم الخيار والأشبه تخريجه على ما إذا تحفلت الشاة بنفسها . وقد تقدم أن فيها خلافا ، وفي الصحيح خلاف ، والأصح عند صاحب التهذيب وقضية كلام الأكثرين ثبوته هناك كما تقدم ، فينبغي أن يكون هنا كذلك . وكلام ابن أبي عصرون في الانتصار والمرشد يقتضي ثبوت الخيار في ذلك ، فإنه قال : إن نظر إلى شعرها فرآه جعدا ثم بعد ذلك بان أنه سبط ثبت له الرد ، وهذه العبارة بعمومها تشمل ما إذا تجعد بنفسه وما إذا جعده ، وكذلك عبارة الماوردي في الحاوي والفوراني أيضا في العمدة وهو الظاهر ، فإنه لا فرق بين تجعد الشعر بنفسه ، وبين أن تحفل الشاة بنفسها ، ولعل الأصحاب إنما لم ينصوا على ذلك مثل ما نصوا على تحفل الشاة ; لأن تحفل الشاة بنفسها قد يقع كثيرا . وأما تجعد الشعر بنفسه فبعيد لا يتأتى في العادة فأفرض وقوعه ، فهو كحفل الشاة بنفسها ، ولعل الفوراني من القائلين بعدم ثبوت الخيار فيما إذا تحفلت الشاة بنفسها كما رأى الغزالي في الوجيز ، فيكون جزمه في تجعيد الشعر بنفسه على ذلك .

                                      ( تنبيه ) المراد بالتجعيد ما يخرج الشعر عن السبوطة المكروهة عند العرب وهو ما ظهر إذا أرسل من التكسير والتقبض والالتواء ، وليس المراد أن يبلغ الجعد القطط ، فإن ذلك مكروه أيضا ، وأحسن [ ص: 285 ] الشعر ما كان بين ذلك . وقد جاء في وصف شعر النبي صلى الله عليه وسلم { أنه كان شعرا رجلا ، ليس بالجعد القطط ولا بالسبط } وفي رواية أخرى { لم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط ، كان جعدا رجلا } وقوله " سبط " هو بفتح السين وبإسكان الباء وفتحها وكسرها أي مسترسلة الشعر من غير تقبض ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الثانية ) من أمثلة المرتبة الأولى إذا سود شعر الجارية ثم بان بياض شعرها أو حمر وجهها ثم بان صفرة وجهها ثبت الخيار بلا خلاف ، والكلام فيه كالكلام فيما إذا جعد شعرها حرفا بحرف . وقياس ما قاله الفوراني فيما إذا حصل ذلك بنفسه أن يأتي ههنا ، وتحمير الوجه والخدين يكون بالدمام وهو ( الكلكون ) قاله القاضي أبو الطيب . وهذه اللفظة مذكورة في المهذب في باب الإحداد وهي بكاف مفتوحة ثم لام مشدودة مفتوحة أيضا ثم كاف ثانية مضمومة ثم واو ساكنة ثم نون . وأصله كلكون بضم الكاف وسكون اللام - و ( الكل ) الورد و ( الكون ) اللون . أي لون الورد . وهي لفظة عجمية معربة . هكذا قال النووي رحمه الله في التهذيب . ومن مسائل هذه المرتبة إذا بيض وجهها بالطلاء ثم اسمر . قاله القاضي أبو الطيب رحمه الله . والطلاوة بياض . وكذلك إذا صبغ الحمار حتى حسن لونه أو نفخ فيه حتى صار بالنفخ كأنه دابة سمينة ، قالهما صاحب التتمة ، أو دهن شعر الدابة قاله المحاملي في المقنع . وكذلك لو كان له رحى قليلة الماء فأراد العرض على البيع والإجارة أرسل ذلك الماء المحبوس حتى ظن المشتري أن الرحى كثيرة الماء شديدة الدوران ، ثم ظهر أن الماء قليل . اتفق الأصحاب عليها .

                                      وكلامهم يقتضي أن أبا حنيفة وافق عليها . كذلك إذا حبس ماء القناة ثم أطلقه عند البيع أو الإجارة ، أعني إجارة الأرض ، فكذا إذا أرسل الزنبور في وجه الجارية فانتفخ وظنها المشتري سمينة ثم بان خلافه ، أو لون جوهرا بلون البلخش أو العقيق أو الياقوت ، فظنه المشتري كذلك ثم بان زجاجا له قيمة بحيث يصح [ ص: 286 ] بيعه ; صح . اتفق الأصحاب في جميع هذه المسائل على ثبوت الخيار ، لما ذكره المصنف رحمه الله . وقوله : " بما يختلف به الثمن " يحترز به مما لا يختلف به الثمن ، كالمسألة الثانية إذا سبطه فبان جعدا ، فإن الثمن يزيد به وما أشبهها مما لا ينقص الثمن به ، ولو لم يخضب الشعر ولا شرط سواده ، ولكن باعها مطلقا فوجدها المشتري بيضاء الشعر ، فسيأتي حكمه بالرد بالعيب إن شاء الله تعالى . ولو لم يلون الجوهر وباعه مطلقا والمشتري يظنه عقيقا أو فيروزجا . قال القاضي حسين : لا خيار له كما لو اشترى بقرة وقد عظم بطنها فظنها المشتري حاملا ولم تكن فلا خيار ، ولك أن تقول : إذا ظن المشتري من غير اعتماد على أمر صحيح الجزم بعدم الخيار . وأما إذا عظم بطن البهيمة من غير فعل البائع ، وقلنا بأنه لو أكثر علفها حتى صارت كذلك ثبت الخيار على وجه سيأتي إن شاء الله تعالى . فينبغي أن يكون كما إذا تحفلت الشاة بنفسها فيجرى فيها ذلك الخلاف . وكذلك إذا تلون الجوهر من غير فعل البائع ، ينبغي أن يجرى فيه الخلاف ويكون حكمه حكم الشاة إذا تحفلت بنفسها ; لأن الظن فيه قوي بخلاف انتفاخ البطن .



                                      ( المرتبة الثانية ) ما في ثبوت الخيار فيها خلاف ، وهو على قسمين ، منه ما مثار الخلاف فيه من ضعف الظن ، ومنه ما مثار الخلاف فيه من خروجه على أكمل مما ظنه ولنقدم الكلام في هذا ، فمن ذلك ما ذكره المصنف رحمه الله إذا سبط شعر الجارية ثم بان أنها جعدة الشعر ، فلا شك أن الجعد أشرف ، وقد يكون السبط أشهى إلى بعض الناس ففي المسألة طريقتان ( إحداهما ) ما ذكره المصنف وارتضاه الإمام واقتصر الرافعي عليها ، أن في المسألة وجهين كالوجهين فيما إذا اشترط أنها سبطة الشعر فبانت جعدة ففي الخيار بالخلف في هذا الشرط الوجهان المذكوران فيما إذا شرط أنها ثيب فخرجت بكرا ( أصحهما ) في المسائل الثلاث أنه لا خيار ، والذي حكاه الماوردي عن ابن سريج في شرط السبوطة .

                                      ( والطريقة الثانية ) أنه لا يثبت الخيار في التدليس بالسبوطة وجها واحدا وإن ثبت في الخلف باشتراطها ، قال الصيدلاني وجعل [ ص: 287 ] ذلك ضابطا عاما : إن كل ما لو كان مشروطا واتصل الخلف به اقتضى خيارا ، وجها واحدا فالتدليس الظاهر فيه كالشرط ، فإذا جعد شعر المملوك ثم بان سبطا ثبت الخيار وكل ما لو فرض مشهورا وصور الخلف فيه فكان في الخيار وجهان ، فإذا فرض التدليس فيه ثم ترتب عليه خلف الظن ، قال : لا خيار وجها واحدا ، لضعف المظنون أولا وقصور الفعل في الباب عن القول .

                                      قال الإمام : وهذا تحكم لا يساعد عليه ، والتدليس في ظاهر الفعل كالقول في مجال الوفاق والخلاف على الاطراد والاستواء ، فإذا سبط الرجل شعر الجارية ثم بان أن شعرها جعد ففي الخيار الوجهان عندنا . قال ابن الرفعة : ولك أن تعجب من قول الإمام : إن ما ذكره الصيدلاني تحكم عجبا ظاهرا من جهة أن مأخذ إثبات الخيار عند التغرير بالفعل التصرية بلا نزاع وقد حكى أن مأخذ إثبات الخيار في المصراة عند بعض الأصحاب إلحاق ذلك بالعيب ، وإذا كان كذلك لم يحسن إثباته إذا خرج المبيع أجود مما رآه ; لأنه لا عيب ويكون حينئذ الصيدلاني في قطعه ناظرا للمعنى المذكور ، ولعله هو قائله ، فإن لم يكن هو قائله استفدنا من كلامه هذا أنه موافق له .

                                      ( قلت : ) وهذا ضعيف لأمرين : ( أحدهما ) أن الصيدلاني إنما علل انتفاء الخيار لضعف الظن وقصور الفعل عن القول . وهذا المعنى لا فرق فيه بين الجعودة والسبوطة ، فإن لم يكن الفعل والظن معتبرا في الثاني لم يكن معتبرا في الأول ، فلا يثبت الخيار في واحد منهما ، وإن قيل بمساواة ذلك القول فيثبت فيهما ، وإن قيل باعتباره مع انحطاطه عن رتبة القول حتى يجرى الخلاف فيجب أن يكون ذلك في الصورتين . أما الحكم بثبوت الخيار في الأولى قطعا كالقول وعدمه في الثانية قطعا لا وجه له . ولو كان الصيدلاني سكت عن التعليل لأمكن تحمل ذلك وأن الخيار ثابت في الأولى بالعيب ومنتف في الثانية لعدم العيب ، لكن كلامه ناص على أن التدليس كالشرط في الصورة الأولى ، وعلى انتفاء الثانية لضعف الظن وقصور الفعل فلا جرم قال الإمام : إن ذلك تحكم .

                                      ( الثاني ) أن القائلين من الأصحاب بأن إثبات الخيار في التصرية [ ص: 288 ] مأخذه الإلحاق بالعيب ، معناه الاكتفاء في ثبوته بفوات الذي وطن المشتري نفسه عليه برؤيته للمبيع على تلك الصورة ، حتى يثبت فيما إذا تحفلت الشاة بنفسها ومقابلة القول الذي يلحق ذلك بخيار الخلف حتى لا يثبت الخيار إلا إذا كان حاصلا بتدليس من البائع كما تقدم ، وإذا كان كذلك أمكن أن يقول بثبوت الخيار ههنا ; لأن المشتري وطن نفسه على السبوطة لما رآها ، وقد يكون له فيها غرض فليس معنى إلحاق ذلك بالعيب إلا جعل دلالة الرؤية على هذا الوصف كدلالة الغلبة على وصف السلامة ، فخروجها على غير الوصف الذي رآه هو العيب ، وليس الوصف الذي رآه من السبوطة أو كبر الضرع من غير علم بالتصرية عيبا ، والذي يقول بأن الغرض قد يتعلق بالشعر السبط لا يمنع أن يجعل خروجه جعدا بمنزلة العيب ، إذا كان الغرض قد تعلق بسبوطته باشتراط أو برؤية لا فرق بينهما ، ويدلك على هذا أن الصحيح - كما تقدم - أن التصرية ملحقة بالعيب ، كما دل عليه كلام الشافعي رضي الله عنه والعراقيين ولذلك كان الصحيح ثبوت الخيار فيما إذا تحفلت بنفسها ، والطريقة الصحيحة ههنا جريان الوجهين ، فلو كان المأخذ في ذلك إلحاقه بالعيب من كل وجه لقطعوا بعدم الخيار ههنا .

                                      وأما كون الصحيح من الوجهين ههنا أنه لا خيار ; فلأن الصحيح من الوجهين فيما إذا أخلف الشرط لصفة أكمل كذلك ، والله أعلم . وبما ذكرناه يظهر لك أن هذا القسم متفق على إلحاقه بالتصرية وإنما الخلاف في الرد بحكم ذلك فعلى وجه يرد كما في التصرية ، وعلى الصحيح لا يرد لخروجه أكمل وهو لو شرط وصفا فخرج أكمل لم يرد على الصحيح . وبهذا التحقيق يتعين أن يكون هذا القسم من المرتبة الأولى ولا يكون من المرتبة المتوسطة التي تقدمت الإشارة إليها في كلام الإمام ، وإنما ذكرته في المرتبة الثانية لكونه من صور الخلاف في الجملة نعم كلام الصيدلاني وما أشار إليه من ضعف الظن وتصور الفعل يقتضي التردد في إلحاقه بالتصرية ، وقد تقدم ما فيه . ثم إن المصنف رحمه الله رد الوجه الثاني بأنه لا اعتبار به أي لا اعتبار بغرض المشتري ، وإنما الاعتبار بما يزيد في الثمن ; لأنه المعتبر لعموم الناس ، وهذا سيأتي مثله أيضا في كلام المصنف فيما إذا شرط أنها ثيب فخرجت [ ص: 289 ] بكرا ، وقد حكى الروياني في البحر أنه لو صرح باشتراط السبوطة فخرجت جعدة ، قال بعض أصحابنا بخراسان : يثبت الخيار وجها واحدا لأجل التصريح ، وقيل : فيه وجهان . فحصل في كل من المسألتين طريقان ( الصحيح فيهما ) إجراء الوجهين وقيل في المسألة الشرط يثبت قطعا ، وقيل في مسألة التدليس لا يثبت قطعا .

                                      ( القسم الثاني من هذه المرتبة الثانية ) التي هي محل الخلاف ما يضعف الظن فيه . والخلاف في هذا القسم في إلحاقه بالتصرية لأجل التغرير والظن ، أولا لضعف الظن في هذا القسم وقصوره على الشرط والظن المسند إلى أمر غالب ، فمن ذلك من جهة أن هذا يقرب اكتشافه وجرت العادة به بخلاف تسويد الشعر ونحوه ، وكذلك الخلاف في هذا القسم ، فمن ذلك لو لطخ ثوب العبد بالمداد أو ألبسه ثوب الكتبة والخبازين ، أو سود أنامله وخيل كونه كاتبا أو خبازا فبان خلافه فوجهان : ( أحدهما ) يثبت الخيار للتلبيس ( وأصحهما ) عند الرافعي وغيره لا خيار وبه جزم الجرجاني ; لأن الإنسان قد يلبس ثوب غيره عارية فالذنب للمشتري حيث اغتر بما ليس فيه كثير تغرير ، وعلى هذا لو ألبسه ثوب الأتراك فظن المشتري أن المملوك تركي وكان روميا ، فالحكم على ما ذكرنا ، قاله صاحب التتمة ، وكذلك لو أكثر علف البهيمة حتى انتفخ بطنها ، فتخيل المشتري كونها حاملا قاله الإمام والمتولي قولا عن الأصحاب والرافعي .

                                      كذلك لو أرسل الزنبور في ضرعها حتى انتفخ ، وظنها المشتري لبونا قاله المتولي والرافعي أيضا ; لأن الحمل لا يكاد يلتبس على الخبير ومعرفة اللبن متيسرة بعصر الثدي ، بخلاف صورة التصرية ، وكثرة اللبن ، فإنه لا سبيل إلى معرفتها ، وقيل إثبات الخيار في مسألة تحمل الحمل منسوب إلى أبي حامد ، وقال ابن الرفعة : وظاهر كلام الأصحاب في ذلك يدل على أنه مفرع على أن الحمل في الدواب ليس بعيب كما هو أظهر الوجهين في الرافعي في كتاب الصداق والموجود في أكثر الكتب . أما إذا قلنا : إنه عيب ، وهو ما أورده في التهذيب ، فيظهر أن يكون الكلام فيه كالكلام فيما إذا سبط شعر الجارية ثم بان أنها جعدة [ ص: 290 ] لأن الأغراض تختلف به وإن كان يعده وصف كمال ، وقد أسلفت ما فيه .

                                      ( قلت : ) وكان مراده بذلك أن يأتي فيه على طريقة قاطعة بعدم الخيار . كما قال الصيدلاني هناك ، وانتصر له . وإن كنت قد بينت هناك ما يرده من كلام الصيدلاني أما ههنا فلا يأتي ما تقدم من الاعتراض بكلام الصيدلاني ، ولكن قد يقال : الحمل وإن كان عيبا فقد يقصده بعض العقلاء ، ويتعلق الغرض به ، ولهذا يصح اشتراطه في الجارية على الأصح وإن كان عيبا فيها ، ويثبت الخيار بعدمه كما قاله ابن يونس . ( والطريقة الصحيحة ) إجراء القولين في اشتراط حمل الجارية . والطريقة القاطعة بالصحة فيها لأجل أن الحمل في الآدميات عيب ، وأن شرطه إعلام بالعيب ضعيف . والأصح أن الحمل في الجارية والبهيمة زيادة ونقص كما ذكره في كتاب الصداق ، فليس نقصا من كل وجه ، حتى يكون عدمه كعدم العيب ، بل عدمه يفوت به ما فيه من الزيادة ; فلذلك يثبت به الخيار .

                                      وقال ابن الرفعة في كتاب البيع : إنا إذا قلنا : إنه عيب فأخلف فلا خيار له كما إذا شرط أنه سارق فخرج غير سارق . وفي كلام الرافعي رضي الله عنه ما يقتضي أن هذه طريقة ليست المذهب ، ولكن مع ذلك إنما يأتي إذا قلنا الحمل عيب ونقص من كل وجه ، وهو بعيد . فإنه قد يكون مقصودا للعقلاء ويرغب فيه في بعض الأوقات لأغراض صحيحة بخلاف العيب المحض .



                                      ( المرتبة الثالثة ) التي لا يثبت فيها الخيار قطعا ، وهو إذا جرى الخلف بشيء لا ظهور له ، كما إذا كان على ثوب العبد نقطة من مداد فهذا لا ينزل منزلة شرط كونه كاتبا هكذا ذكره الإمام ، ونبه على أن محل الوجهين اللذين ذكرناهما في المرتبة الثانية ، وأما إذا كان وقع المداد بحيث يعد من مثله أن صاحب الثوب ممن يتعاطى الكتابة ، وذكر الروياني فيما إذا كان على الثوب أثر مداد فظنه كاتبا طريقين : [ ص: 291 ]

                                      ( أحدهما ) أن فيه وجها واحدا ; لأنه يحتمل أن يكون استعار ثوبا فقد ظن في غير موضعه ، فهذا الذي قاله الروياني يحتمل أن يكون في المسألة من حيث الجملة ، ويحتمل أن يكون القطع في محل ، والخلاف في محل آخر على ما تقدم ، ويحتمل أن يكون الطريقان في هذه المرتبة الأخيرة ( والأفقه ) التفصيل المتقدم ولم يذكر المصنف رحمه الله هذه المرتبة الأخيرة ولا شيئا من أمثلة القسم الثاني من المرتبة الثانية ، وإنما ذكر مسألة سبوطة الشعر وقد نبهت على أنها - وإن كان فيها خلاف في الرد - فليس ذلك اختلاف في إلحاقه بالمصراة ، بل لأجل خروجها على الوصف الأكمل . فينبغي أن يحمل كلام المصنف رحمه الله على أنه لم يرد إلا ذكر المصراة وما يلحق بها ، ولذلك ذكر بعده مسألة هي من المرتبة الأولى التي لا خلاف في ثبوت الخيار فيها ، وهي إذا اشترى صبرة ثم بان أنها على صخرة ، أو بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة ، أي وإن كان الكل جيدا لا عيب فيه فأما مسألة الصبرة إذا بان أنها على صخرة وكان المشتري عند العقد يظن أنها على استواء الأرض ، فهل يتبين بطلان العقد ؟ وفيه وجهان

                                      ( أصحهما ) لا ، ولكن للمشتري الخيار كما ذكره المصنف رحمه الله تنزيلا لما ظهر في منزلة العيب والتدليس وهو الذي نص عليه الشافعي في باب السنة في الخيار في الجزء السابع من الأم . قال الرافعي رضي الله عنه : وهذا ما أورده صاحب الشامل وغيره ( قلت ) وممن جزم به الماوردي في باب الشرط الذي يفسد البيع ، والقاضي أبو الطيب قبل باب بيع المصراة .

                                      ( والثاني ) وبه قال الشيخ أبو محمد يتبين بطلان العقد ; لأنا بنينا بالآخرة أن العيان لم يفد علما ، هذا إذا ظنها مستوية الأرض ، أما لو علم بالحال فثلاثة طرق ( أصحها ) أن في صحة البيع قولي بيع الغائب ( والثاني ) القطع بالصحة ( والثالث ) القطع بالبطلان ، وهو ضعيف ، وإن كان منسوبا إلى بعض المحققين . ( فإن قلنا : ) بالصحة فوقت الخيار هنا معرفة مقدار الصبرة أو التمكن من تخمينه برؤية ما تحتها ، والوجهان في حالة الظن [ ص: 292 ] الاستواء مفرعان على القول بالبطلان ههنا ، وأما إذا بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة فالتلبيس حاصل كمسألة المصراة ، وتجعيد الشعر ، وشبهها من المسائل المجزوم بثبوت الخيار فيها ولم أرها في غير كلامالمصنف رحمه الله أتبعه ابن أبي عصرون في الانتصار والمرشد ، وإنما المشهور في كلام الأصحاب إذا وجد باطنها عفنا أو نديا أو معيبا ، أما إذا وجده دون ظاهرها في الجودة مع كونه غير معيب فقل من تعرض له ، لكن في كلام الشيخ ما يحتمله فإنه قال في باب الشرط الذي يفسد البيع : إن نقلها فوجد أرضها مستوية وباطن الطعام كظاهره فالبيع لازم ، وإن كانت على دكة أو خرج الطعام متغيرا كان له الخيار ; لأنه تدليس ، فهذا الكلام يمكن أن يؤخذ منه ما ذكره المصنف ، وبالجملة فالحكم فيه واضح للتدليس ، وهذا فرع عن القول بصحة البيع .

                                      وقد قال الإمام عند الكلام في بيع الغائب : ولو كان باطن الصبرة يخالف ظاهرها فحفظي عن الإمام أن ذلك بيع غائب ، وفيه احتمال ظاهر عندي ، وإنما أخر المصنف هذه المسألة بعد مسألة تسبيط الشعر المختلف فيها حتى يجعل تسبيط الشعر بعد تجعيده ، والخلاف فيها لغير إلحاقها بالمصراة كما تقدم التنبيه عليه ، والله تعالى أعلم .

                                      وقد يقال : إن العلم بباطن الصبرة مما يسهل استكشافه بإدخال يده فيها ونحوه فهلا كان ذلك كعلف البهيمة وإرسال الزنبور وأخواتها ؟ وقد تقدم أن الأصح عدم ثبوت الخيار فيها لسهولة الاستكشاف . ( والجواب ) أن الاستدلال بظاهر الصبرة على باطنها أمر معتاد ، لا ينسب صاحبه إلى تفريط ويشق تقليب الصبرة بكمالها ، وأما انتفاخ بطن البهيمة وضرعها وأخواتها فلا يدل دلالة واضحة على الحمل واللبن ، والمكتفى بدلالة ذلك على الحمل واللبن ، ودلالة تلطخ الثوب بالمداد على الكتابة منسوب إلى تفريط ، وقد نص الشافعي رحمه الله فيما نقله أحمد بن بشرى على أنه إن خلط حنطة بشعير ثم جعل أعلاها حنطة لم يجز ، وإن خلطهما أو حنطتين إحداهما أرفع فلا بأس ببيعها إذا كان ظاهره وباطنه واحدا فالتقيد بذلك دليل [ ص: 293 ] على أنه إذا جعل ظاهرها أجود يثبت الخيار ; لأنه جعله من الغش المحرم ، والغش المحرم يثبت الخيار



                                      ( فروع ) إذا أسلم إليه في جارية جعدة فسلم إليه جعدة فلا خيار له على أصح الوجهين ، قاله القاضي أبو الطيب . اشترى جارية على أن شعرها أبيض فكان أسود ففي الرد وجهان في الحاوي وغيره . قال في المجرد من تعليق أبي حامد وغيره : الصحيح أنه لا يرد ، وقياسه أن يأتي الوجهان فيما إذا شاهد شعرها أبيض فبان أسود كما في السبوطة ، وكذلك في البحر . لكنه في نسخة سقيمة لم أثق بها الخيار في تلقي الركبان مستنده التغرير كالتصرية وكذا خيار النجش إن أثبتناه . ومن التدليس الذي لا يثبت به خيار أن يقول كاذبا طلب هذا الشيء مني بكذا ، أو اشتريته بكذا ، فإن المشتري يغتر بما يقوله ويزيد في الثمن بسببه ، قاله القاضي حسين وغيره ، والله تعالى أعلم



                                      ( فرع ) غير المصراة إذا حلب لبنها ثم ردها بعيب ، ذكر العراقيون هذا الفرع في مناظرة جرت بين الشافعي ومحمد بن الحسن بعضهم عن الإملاء وبعضهم عن القديم قال الشافعي : قال لي محمد بن الحسن : فما تقولون فيما إذا اشترى شاة ليست بمصراة ولكن فيها لبن فحلبها زمانا ثم وجد بها عيبا أله الرد ؟ . ( قلت : ) نعم فقال : إذا رد أيرد شيئا لأجل اللبن ؟ . ( قلت : ) لا ، هكذا نقل الشيخ أبو حامد هذه المناظرة قال : والفصل بينهما أن لبن المصراة متحقق فوجوده حالة العقد يتقسط عليه بعض الثمن فوجب رد قيمته على البائع عند تلفه وغير المصراة لا يتحقق وجود لبنها حالة العقد ، فلم يتقسط عليه شيء من الثمن فلم يجب رد قيمته . واعترض الإمام على ذلك بأنا إذا كنا نردد القول في أن الحمل هل يعلم ؟ فاللبن معلوم في الضرع ، قال : وكيف لا ؟ وقد تتكامل الدرة ، ويأخذ الضرع في التقطير ، ولكن الوجه أن نجعل اللبن كالحمل في مقابلته بقسط من الثمن ( فإن قلنا ) لا يقابل بقسط ، فالجواب [ ص: 294 ] ما حكوه ( وإن قلنا ) يقابل ، فالوجه أن يرد بسبب اللبن شيئا ، وجزم صاحب التهذيب بأنه يرد معها صاعا من تمر . وحكى الرافعي ما قاله صاحب التهذيب ، وما حكاه أبو حامد عن النص ، وما رواه الإمام عن التخريج على أنه هل يأخذ قسطا من الثمن ؟ قال : والصحيح الأخذ ، وذلك إشارة إلى ترجيح طريقة الإمام أو طريقة صاحب التهذيب على الطريقة المحكية عن النص ، وأن الأصح أنه يرد بدل اللبن .

                                      وقال الماوردي : إن له الرد وعليه رد بدل اللبن ولكن لا يلزمه رد صاع ; لأن الصاع عوض لبن التصرية ، فإن اتفقا على قدره فذاك ، وإلا فالقول قول المشتري ، فهذه أربع طرق ، وفي تعليق أبي علي الطبري عن ابن أبي هريرة أنه يردها قولا واحدا ، ويرد معها صاعا من تمر على أصح الوجهين ، وفي هذا موافقة لصاحب التهذيب ، وفي تعليق الشيخ أبي حامد التي بخط سليم ، وتعليق القاضي أبي الطيب وغيرهما تفصيل لا بد منه ، وهو أنه إذا لم يمكن هناك رد اللبن المحلوب ولا رد شيء لأجله ; لأن اللبن لم يكن موجودا في حالة العقد وإنما حدث في ملكه وإن كان ينتج في تلك الحالة شيء فذلك يسير لا حكم له ، وما حدث في ملكه لا يمنعه من الرد ولا يوجب عليه بدلا كغلة العبد ، فهذا القسم لا يمكن الخلاف فيه ; لأنه ليس عند العقد لبن يقابل بقسط من الثمن ، فإيجاب البدل لا يدل عليه معنى ولا يفيد أن في ضرعها لبن مجتمع لبن العادة لا لبن التصرية ، فحلبها ثم علم بها عيبا فإن كان اللبن تالفا فلا رد ; لأنه تناوله لاستعلام العيب ، فلا يمكن له رد بعض المبيع . ونقل القاضي أبو الطيب أن من أصحابنا من قال : له رد الشاة ولا يرد بدل اللبن ، وأنه نص عليه في القديم ; لأن لبن غير التصرية يسير ، قال أبو الطيب والشاشي : والأول أقيس ، وإذا ضممت [ ص: 295 ] ما ذكره الرافعي والماوردي إلى ما اختاره هو لاجتمع في المسألة في هذا القسم خمس طرق : ( أحدها ) امتناع الرد . وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب ومن وافقهما .

                                      ( والثاني ) الرد فلا يرد بدل اللبن شيئا ، وهو المحكي عن نصه في القديم . والرافعي نقله عن حكاية أبي حامد ، ولم أره في تعليقه في هذا القسم صريحا ، وإنما ذكره مطلقا . وأما أبو الطيب فإنه صرح به في هذا القسم كما ذكرت . ( الطريق الثالث ) قول صاحب التهذيب : إنه يردها ويرد صاعا من تمر . ( الرابع ) قول الماوردي : إنه يرد بدل اللبن ولا يرد الصاع . ( الخامس ) قول الإمام : التخريج على مقابلته بالقسط والأصح المقابلة ، فيلزم رد بدله ، لكن ماذا يرد هل هو التمر ؟ كما قال صاحب التهذيب أو غيره ؟ كما قال الماوردي ، لم يصرح الإمام في ذلك بشيء .

                                      وإن كان اللبن باقيا فعند الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب ومن وافقهما ينبني على الوجهين المتقدمين ، فيما لو كان اللبن باقيا وطلب المشتري رده مع المصراة ( إن قلنا ) يرد رده وردها بالعيب ( وإن قلنا ) لا يرد يرجع بالأرش ولم يتعرض الرافعي رحمه الله وصاحب التهذيب والإمام والماوردي لحالة بقاء اللبن بخصوصها ، والظاهر أن صاحب التهذيب القائل : يرد به الصاع التمر . لا يفترق الحال عنده بين بقاء اللبن وتلفه كالمصراة على المذهب ، والماوردي يحتمل أن يكون كذلك ، وهو الظاهر لتعذر العلم بمقدار اللبن ، إلا أن يتفقا على رده وقول الإمام محتمل لكلام صاحب التهذيب وكلام الماوردي كما تقدم فعلى هذا يأتي في حالة بقاء اللبن أيضا ست طرق : امتناع الرد أو الرد ، ولا يرد معها شيئا ، والرد مع رد اللبن ، أو الرد مع رد التمر ، أو الرد مع رد البدل غير التمر أو التخريج على المقابلة بالقسط . [ ص: 296 ] وفي هذه المسألة إذا قلنا برد الشاة مع اللبن عند مقابلة شيء ليس في مسألة المصراة على ذلك القول ، وهو أنا هناك نقول : له أن يرد ويجبر البائع على القبول وللمشتري مع ذلك أن لا يرد اللبن ويرد الشاة وحدها مع التمر . وأما هنا على هذا القول فإنا نقول : إما أن يرد اللبن والشاة ، وإما أن لا يرد شيئا ، ولا نقول إن له رد التمر ; لأنه لو كان تالفا لم يرد التمر ، وإنما يمتنع فكذلك إذا كان باقيا ، واللبن عند هؤلاء لعين أخرى ورد عليها العقد في غير التصرية ، والله أعلم .

                                      ( تنبيه ) اعلم أن كل من قال بالرد ورد شيء بدل اللبن يقول بأن اللبن يقابله قسط من الثمن ، ومن يقول بأنه لا يرد أصلا يقول بأنه مقابل بالقسط ، فيشبه أن تكون إطلاقاتهم مخرجة على ذلك ، لا أن تكون طريقة مخالفة ، وحينئذ تعود الطريق إلى القسم الأول إلى أربعة وفي الثاني إلى خمسة ، وإنما ذكرت طريقة الإمام معهم لمغايرتها في ظاهر العبارة ، والله أعلم .

                                      وإذا وقفت على ما تقدم علمت أن الذي ينبغي أن يكون هو الصحيح أحد قولين ، إما امتناع الرد في القسم الأول كما اختاره الشيخ أبو حامد ، وقال القاضي أبو الطيب : إنه الأقيس ، وذلك لأن الصحيح أن اللبن يقابله قسط من الثمن فليس له أن يرد من غير رد بدله ولا مع بدله ، لما فيه من تفريق الصفقة ، ورد الشاة بعد تعيبها بما ليس من ضرورة الوقوف على العيب ، ولأن الصاع الذي جعل بدلا عن اللبن ورد في المصراة على خلاف القياس فلا يقاس غيره عليه ، وكذلك في القسم الثاني ; لأنهم بنوه على الوجهين السابقين في رد لبن المصراة عند بقائه ، والصحيح هناك أنه لا يجب على البائع قبوله ، ومقتضى البناء أن يكون الصحيح هنا أنه لا يرد ويأخذ الأرش ، وأخذ الأرش في القسمين إذا قلنا بامتناع الرد ، سواء كان اللبن باقيا أو تالفا ، وإن سكتوا عنه فالصحيح حينئذ امتناع الرد مطلقا في القسمين . وأما قول صاحب التهذيب : إنه يردها وصاعا من تمر مطلقا في القسمين ففيه بعد . فإن في الحديث الوارد في المصراة إن صح قياس [ ص: 297 ] هذه عليه وجب أن يرد التمر كما قال صاحب التهذيب ، وإن لم يصح قياسها على المصراة وجب أن يجرى فيها على حكم القياس ; فيمتنع الرد كما قاله أبو الطيب ومن وافقه فيقول : الماوردي مخالف للأمرين جميعا . فأصح الأقوال وأحسنها أحد القولين إما قول أبي الطيب ومن وافقه ، وإما قول صاحب التهذيب . وفي كل منهما مرجح .

                                      أما قول صاحب التهذيب فلأنه لما علم من الشارع في المصراة أن بدل اللبن صاع من تمر وجب أن يكون ذلك بدلا له في المصراة في غيرها لا سيما والمعنى الذي ثبت لأجله من قطع التنازع موجود ههنا . فيثبت بالقياس على المصراة ، وأما قول الشيخ أبي حامد وأبي الطيب ومن وافقهما فيرجحه الجريان على القياس الكلي في غير المصراة ، وقصر الحكم الوارد في الحديث على محل النص . لكونه مخالفا للقياس فلا يتعدى به محله والمختارون لهذا القول من العراقيين أكثر . وقال صاحب العدة : إنه ظاهر المذهب ، وعندي في الترجيح بين القولين نظر ، إن قوي القياس على المصراة يترجح قول صاحب التهذيب ، وإلا يرجح قول أبي الطيب ، وهو ومن وافقه يجيبون عن القياس على المصراة بأن المصراة حلبها لاستعلام العيب بخلاف هذه . والقلب إلى ما قاله هؤلاء أميل منه إلى ما قاله صاحب التهذيب . والعجب أن الرافعي لم يتعرض لهذا ولا حكاه . هذا إذا كان عند العقد لبن موجود له قيمة . فإن لم يكن كذلك جاز رد الشاة وحدها كما تقدم ذلك مما لا نزاع فيه .

                                      واعلم أن إطلاق النص يقتضي أيضا مخالفة قول الأكثرين ، وقول صاحب التهذيب وقول الماوردي وأنه يردها ولا يرد معها شيئا ، فإما أن يكون ذلك من الأقوال القديمة كما اقتضاه نقلهم له عن القديم ، وإما أن يكون محمولا على ما إذا كان لبن يسير . أما اللبن الكثير فهو مقابل بقسط من الثمن على ما صرح به الشافعي رضي الله عنه في الأم وحكيناه في غير موضع ، فلا يمكن القول بالرد بدون رد بدله ، والله أعلم . إلا إذا قلنا بأنه لا يقابل بقسط من الثمن . ويحتمل أن يحمل قول الشافعي رضي الله عنه : لا يرد شيئا لأجل [ ص: 298 ] اللبن ، أي اللبن الحادث ، فإن في نصه الذي حكاه ابن بشرى قال : " وإذا اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها شهرا أو أكثر ثم ظهر على عيب دلس له فيها ردها ولم يرد معها شيئا " وقوة هذا الكلام تشير إلى أنه لا يرد معها شيئا عن ذلك الذي احتلبه طول الشهر ، وصاحب التهذيب فيما قاله في هذه المسألة تابع للقاضي حسين فإنه سأل عنها فقال : ينبغي أن يرد معها صاعا من تمر ، والله أعلم



                                      ( فرع ) إذا كانت الشاة غير مصراة وشككنا هل كان في ضرعها حين البيع لبن له قيمة أو لا ؟ لم يرد معها شيئا . وعليه يحمل قول الشيخ أبي حامد ومن وافقه فيما تقدم أن غير المصراة لا يتحقق وجود لبنها حالة العقد فلم يتقسط عليه الثمن فلم يجب رد قيمته . والله أعلم .

                                      ( فرع ) الكلام إلى هنا في بيع المصراة ، ومن الفصل الذي بعده في الرد بالعيب والمزني في المختصر ، وأكثر الأصحاب جعلوا ذلك بابين ، فترجموا الأول بباب بيع المصراة ، وترجموا الثاني بباب الخراج بالضمان والرد بالعيوب . والمصنف رحمه الله جعل ذلك بابا واحدا لاشتراكهما فيما نبهت عليه أول الباب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية