الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 215 ] 631 - باب بيان مشكل القضاء بين المختلفين من أهل العلم في الصلح من الأشياء المعلومة مقاديرها على الأجزاء من أجناسها المجهولة بما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .

4040 - حدثنا بحر بن نصر ، قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني ابن كعب بن مالك .

أن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم قال جابر : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فسألتهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطي ولم يكسره لهم ، ولكنه قال : سأغدو عليك فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة فجددناها وقضيتهم حقوقهم وبقي لنا من ثمرها بقية ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر وهو جالس : اسمع يا عمر ، فقال عمر : ألا نكون علمنا ، قد علمنا أنك رسول الله فوالله إنك لرسوله .

[ ص: 216 ]

4041 - حدثنا يونس قال : أنبأنا ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن كعب بن مالك .

أن جابر بن عبد الله قتل أبوه يوم أحد شهيدا وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم ، قال جابر : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته ، ثم ذكر مثله سواء .

[ ص: 217 ]

4042 - أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن وهب بن كيسان .

عن جابر بن عبد الله أنه أخبره أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يشفع له فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى فيها ، ثم قال : يا جابر جد له فأوفه الذي له ، فجده بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفى ثلاثين وسقا ، وفضلت له سبعة عشر وسقا ، فجاء جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي فعل فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جابر فأخبره أنه قد أوفى وأخبره بالفضل الذي فضل له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبر بذلك ابن الخطاب ، فذهب جابر إلى عمر فأخبره فقال عمر : لقد علمت حيث مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركن الله عز وجل فيها .

[ ص: 218 ]

4043 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا المقدمي ، قال : حدثنا سعيد بن سلمة وهو ابن أبي الحسام ، قال : حدثنا محمد بن المنكدر .

عن جابر بن عبد الله قال : كان لرجل على أبي كذا وكذا وسقا فعرضت ثمر نخلي بالذي له فأبى وعرضه عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذه بحقه فأبى ، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فبارك في ثمري فجددت فقضيت الرجل حقه وفضل منه مثل ثمر النخل كل عام .

4044 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أمية بن بسطام ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا روح بن القاسم ، عن محمد بن المنكدر .

عن جابر بن عبد الله أنه كان على أبيه أوسق من تمر فقلنا [ ص: 219 ] للرجل : خذ ثمر نخلنا بما عليه فأبى فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمر فدعا لنا بالبركة فيها ، فجددناها فأعطينا الرجل كل شيء كان له وبقي خرص نخلنا كما هو فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : ائت عمر فأخبره فأتيت عمر فأخبرته ، فقال : قد علمت يا رسول الله إذ دعوت لهم فيها بالبركة أنه سيبارك فيها .

4045 - حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار .

عن جابر بن عبد الله قال : أصيب أبي وله حديقتان وليهودي عليه تمر يستنفد ما في الحديقتين ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه في أن يكلمه في أن يؤخر عنا بعضه فكلمه فأبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلم إلى تمرك فجده ، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل إلى أحد الحديقتين وهي أصغرهما ، فقال لنا : جدوا فجعلنا نجد ونأتيه بالمكتل فيدعو فيه فلما فرغنا قال لليهودي اكتل فأعطاه حقه من أصغر الحديقتين وبقيت لنا الحديقة الأخرى .

قال أبو جعفر : ففي هذه الآثار سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماء عبد [ ص: 220 ] الله بن حرام أن يقبلوا ثمر حائطه الذي لم يقفوا على مقدار كيله ولا على مثله الذي يقابله من دينهم الذي لهم عليه ، وأن يحللوه من بقية دينهم الذي لهم عليه بغير وقوف منهم على مقداره من دينهم الذي لهم عليه .

وهذا معنى قد اختلف أهل العلم فيه فأجاز بعضهم البراءة من الديون المعلومة ومن الديون المجهولة عند المبرئ منها ، وممن كان يقول ذلك منهم أبو حنيفة وأصحابه وهو معنى قول مالك .

وقال بعضهم : لا يجوز ذلك إلا فيما يعلم المبرئ والمبرأ ويقفان على مقداره في وقت البراءة منه ، وممن قال ذلك منهم الشافعي .

ومثل ذلك ما اختلفوا فيه من الصلح من الحقوق التي لبعض الناس على بعض على المقادير منها التي ما ينقص عنها من جنسها مما لا يعلم المتصالحان مقاديرها مما اصطلحا عليه ، فأجاز ذلك بعضهم وهم الذين ذكرنا في إجازة البراءة التي وصفنا ، ولم يجز ذلك آخرون منهم الشافعي .

وفي هذا الحديث ما قد دل على جواز ذلك في البراءات وفي الصلح جميعا إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد سأل غريم عبد الله بن حرام أن يأخذ ثمر ذلك الحائط بالذي له عليه مما لا يعرف مقداره ما هو ، ويحلله من بقية دينه مما لا يعرف مقداره ما هو .

وفي هذا الحديث أيضا معنى آخر يقضي بين المختلفين من أهل [ ص: 221 ] العلم في صلح الوارث غرماء أبيه المتوفى من دينهم الذي لهم عليه على بعضه ، هل يطيب لهم ذلك ويطيب لهم البقية من تركته أم لا ، فكل أهل العلم وجدناهم يجيزون ذلك غير الأوزاعي فإنه لم يجزه ومنع الوارث منه ; لأن غرماء أبيه أولى بمال أبيه منه حتى يقبضوا ديونهم منه ويستوفوه .

وفيما روينا من طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غريم عبد الله بن حرام ما طلبه منه من الانتظار ببعض دينه في بعض ما روينا ومن ثبوت الدين على عبد الله بن حرام وانتفى حله منه حتى يقضي عنه ما قد دل على خلاف ذلك ; لأنه إذا جاز أن يؤخر الغريم بدينه إلى وقت من الأوقات حتى يكون في ثمرة حائط المتوفى ما يقضى به دينه ويسلم بقية ثمرته لوارثه ما قد دل على خلاف ما قاله الأوزاعي مما ذكرناه عنه .

وفي حديث يونس وبحر إضافة الحائط إلى جابر بن عبد الله وفي حديث محمد بن عبد الله بن عبد الحكم إضافته إلى عبد الله بن حرام أبي جابر ، فكان ما في حديث محمد عندنا أولى المعنيين به لما في حديث علي بن شيبة ، عن يزيد ، عن حماد ، عن عمار من تخليف عبد الله بن حرام الحديقتين اللتين قضى دينه من ثمر الصغرى منهما ، وكان قول جابر في غيره: ثمر حائطي كما يضيف الناس أسباب من هم منهم إليهم لا على الحقائق حتى تعالى ذلك إلى لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لزيد بن حارثة لما قضى بينه وبين علي وجعفر رضي الله عنهما في ابنة حمزة عليه السلام فيما قضى به بينهم فيها : وأما أنت يا زيد [ ص: 222 ] فمولاي ومولاها ، وإنما كان ولاء زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا لها ، وقد ذكرنا ذلك بإسناده فيما تقدم منا من كتابنا هذا ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية