الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الحادي عشر: قوله: "كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره ... إلخ".

يقال: نحن إذا التفتنا إلى السماء أو غيرها من الموجودات من غير التفات إلى غيرها، لم نعقل إلا تلك العين الموجودة، فإذا قدرنا أنه لا يجب لها الوجود من نفسها لم تكن موجودة إلا بموجد يوجدها، فنحن نعقل أن الشيء إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره، وإذا قسم الوجود إلى موجود بنفسه وموجود بغيره وسمي هذا ممكنا، كان هذا تقسيما صحيحا، وهو كتقسيمه إلى مفعول وغير مفعول، ومخلوق وغير [ ص: 349 ] مخلوق. أما كون هذا الممكن له ذات وليس له من تلك الذات وجود ولا عدم، فهذا غير معقول في شيء من الموجودات، بل المعقول أنه ليس في الممكن من نفسه وجود أصلا ولا تحقق ولا ذات ولا شيء من الأشياء.

وإذا قلنا: ليس له من ذاته وجود، فليس معناه أنه في الخارج له ذات ليس له منها وجود، بل معناه أنا نتصور ذاتا في أنفسنا، ونتصور أن تلك الذات لا توجد في الخارج إلا بمبدع يبدعها، فالحقائق المتصورة في الأذهان لا توجد في الأعيان إلا بمبدع يبدعها في الخارج، لا أنه في الخارج لها ذات ثابتة في الخارج تقبل الوجود في الخارج والعدم في الخارج، فإن هذا باطل.

وإذا كان كذلك، وعلمنا أن كل موجود فإما موجود بنفسه وهو الخالق، أو موجود بغيره وهو المصنوع المفعول، والمصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم، بل الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم عند عامة العقلاء، ولو قدر أنا لم نعرف هذا فتسمية ما وجوده بنفسه ووجود غيره منه خالقا، [ ص: 350 ] وتسمية ما أبدعه غيره مخلوقا، أحسن وأبين من تسمية هذا ممكنا، إذا الممكن لا يوصف به في العادة إلا المعدوم الذي يمكن أن يوجد وأن لا يوجد، وأما ما وجد فقد خرج عن الإمكان إلى الوجوب بالغير، فالمعروف في فطر الناس أن ما مضى من وجود وعدم لا يسمونه ممكنا، وإنما يسمون بالممكن شيئا يمكن وجوده في المستقبل وعدمه في المستقبل.

ثم إذا عرف أن كل ما سوى الوجود بنفسه فهو مفعول مصنوع له، علم أن المصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا، كما قد بسط في موضعه، وهذه الاعتراضات ليست اعتراضات على إثبات واجب الوجود، فإنه حق، لكن على هذا الطريق الذي سلكه، حيث أثبت ذاتا ممكنة، مع كونها عنده قديمة أزلية، ولا يحتاج إثبات واجب الوجود إلى هذا في هذه الطريق.

بل إذا قيل: كل موجود فإما موجود بنفسه، وإما موجود بغيره، والموجود بغيره لا يوجد إلا بالموجود بنفسه، ثبت وجود الموجود بنفسه، وإذا سمي هذا واجبا وهذا ممكنا، كان ذلك أمرا لفظيا. لكن المقصود أنه لا يثبت واجب الوجود بما يدعى أنه ذات تقبل الوجود والعدم، وهي مع ذلك قديمة أزلية واجبة، فالواجب لا يقبل العدم بحال، والله أعلم.

[ ص: 351 ] وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الموضع عامة النفع، يحتاج إليها في هذا الموضع وغيره، لما في القلوب من الأمراض، ولكن خرجنا إليها من الكلام على المسالك التي سلكها أبو عبد الله الرازي في حدوث العالم والأجسام، وذكرنا كلام الآمدي على تلك المسالك، فحصل هذا في الكلام على المسلك الأول.

التالي السابق


الخدمات العلمية