الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 348 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن كان المبيع دابة فساقها ليردها فركبها في الطريق ، أو علفها أو سقاها لم يسقط حقه من الرد ، لأنه لم يرض بالعيب ، ولم يوجد منه أكثر من الركوب والعلف والسقي ، وذلك حق له إلى أن يرد فلم يمنع الرد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الانتفاع بالمبيع قبل العلم بالعيب إن لزم منه تأخير أو دفع في زمن لو سكت فيه أبطل خياره فلا شك في بطلان الرد لما تقدم في اشتراط المبادرة فينبغي أن يستحضر أن جميع ما ذكره هنا المراد منه أن يكون مع المبادرة في مدة طلب الخصم والقاضي ، وحينئذ أقول : هذا الذي ذكره المصنف رحمه الله في الركوب والعلف والسقي نقل الشيخ أبو حامد والمحاملي في التجريد أن ابن سريج فرعه في جملة مسائل في الرد بالعيب على الجامع الصغير لمحمد بن الحسن وذكره هكذا كما ذكره المصنف رحمه الله حكما وتعليلا ، وقال : إن الذي يمنع من الرد أحد أمرين : حدوث نقص بالمبيع ، أو ترك الرد مع القدرة عليه ، ولم أر هذه المسألة في تعليق أبي الطيب ، وذلك مما قد يرجح أن المهذب من تعليق أبي حامد . وممن وافق المصنف على هذا الحكم ابن الصباغ في الشامل ، والجرجاني في الشافي ، واختاره الروياني في الحلية . وقال ابن الصباغ : قال أصحابنا : كذلك إذا حلبها في طريقه لأن اللبن له ، فإذا استوفاه في حال الرد جاز كمنافعها ، وهذا تصريح بجواز استيفاء المنافع في حال الرد بالنقل عن الأصحاب ، وممن وافق على نقل ذلك من الأصحاب الروياني في البحر ، ونقل عن والده أنه قال على قياس هذا : لو كانت ثيبا فوطئها وهو حامل لها ينبغي أن لا يبطل حق الرد ، ومراده بأنه حامل لها حتى لا يحصل بالوطء تأخير ، فلو فرض ذلك في وقت لا يمكن المسير فيه كالليل ، فالظاهر أنه يضطر وذلك فيه ولذلك أطلق الرافعي الحكاية عنه أنه يجوز وطء الثيب .

                                      وصرح الجرجاني مع موافقته المصنف بأنه لا يجوز وطء الجارية ، ولا لبس الثوب ، وهذا هو الصحيح لأن ذلك يدل على الرضا . وأفهم كلام صاحب الشامل أن المبطل للرد الاشتغال بما يدل على [ ص: 349 ] الرضا ، وهذا الذي قاله المصنف وابن الصباغ والروياني . وما اقتضاه كلامهم من جواز كل الانتفاعات نقل الرافعي عن الروياني خاصة . وذهب هو وكثير من الأصحاب الذين وقفت على كلامهم إلى خلافه ، وها أنا أذكر ما ذكروه ( فأقول ) الذي قاله ابن القاص في التلخيص والمفتاح والماوردي والفوراني والقاضي حسين والمتولي والإمام والغزالي والبغوي وأبو الحسن بن خيران في اللطيف والخوارزمي في الكافي والرافعي والنووي أنه يشترط في الرد بالعيب المبادرة إليه أن لا يستعمل المبيع بعد علمه بعيبه ، فإن استعمله وكان رقيقا واستخدمه ، أو دارا فسكنها بطل حقه من الرد والأرش معا ، لأن الاستعمال ينافي الرد . واختلفوا فيما إذا كان يسيرا جرت العادة بمثله في غير ملكه ، كقوله : اسقني أو ناولني الثوب أو أغلق الباب ، ففي هذا وما جرى مجراه وجه جزم به الماوردي والروياني في البحر أنه لا أثر له ، ونقله الرافعي عن غير الماوردي أيضا ، والذي قاله القاضي حسين والإمام وقاله الرافعي : إن الأشهر أنه لا فرق ، وتابعه النووي في الروضة وقال : إنه الأصح الأشهر . ونقل عن القفال في شرح التلخيص أنه لو جاءه العبد بكوز ماء فأخذ الكوز منه لم يضر ; لأن وضع الكوز في يده كوضعه على الأرض ، فإن شرب ورد الكوز إليه فهو استعمال ، أما إذا كانت دابة فركبها فإن ركبها لا للرد بطل حقه وإن ركبها للرد أو السقي فإن كانت جموحا يعسر سوقها وقودها فهو معذور في الركوب ، وإن لم تكن جموحا ، ولكنه ركبها في الطريق وهي مسألة الكتاب ففيه وجهان ( أصحهما ) على ما ذكره الرافعي والنووي البطلان ; لأنه انتفاع لم تجر العادة به في غير ملكه إلا بإذن المالك .

                                      ( والثاني ) وهو ما قطع به في الكتاب ، ونسبه الماوردي إلى ابن سريج ، وصححه ابن أبي عصرون ، واختاره الروياني في الحلية : لا يسقط حقه ، ويستدل له الماوردي وغيره بأن الركوب عجل له في الرد وأصلح للدابة من القود . قال ولكن : لو كان ثوبا فلبسه ليرده لم يجز ، وكان هذا اللبس مانعا من الرد ; لأن العادة لم تجر به ، ولأن لا مصلحة للثوب في لبسه ، وجعل الرافعي هذه المسألة دليلا على الأصح عنده في مسألة الركوب ، ولكن ما ذكره الماوردي من [ ص: 350 ] اعتبار العادة والمصلحة فارق ، ولو كان لابسا للثوب فاطلع على عيبه في الطريق فتوجه ليرده لم ينزع فهو معذور ; لأن نزع الثوب في الطريق لا يعتاد ، قاله الماوردي ونقله الرافعي عنه . ولو ركب الدابة للانتفاع فاطلع على عيبها لم يجز استدامة الركوب ، وإن توجه للرد على ما هو الأصح عند الرافعي ، ولو كان حمل عليها سرجا أو إكافا ثم اطلع على العيب فتركهما عليها بطل حقه ; لأنه استعمال وانتفاع . قاله الرافعي تبعا لصاحب التلخيص . قال الرافعي : ولولا ذلك لاحتاج إلى حمل أو تحميل ، أي فتركهما يوفر عليه كلفة الحمل والتحمل فهي انتفاع فيمنع منه . قال ابن الرفعة : ويشبه أن يكون هذا إذا لم يحصل بنزعه ضرر بالدابة ، فإذا حصل أو خيف منه كما إذا كانت عرقت وخيف من نزعه أن تهوى فلا يكون نزعه في هذه الحالة تقصيرا ، إذ هو يعيبها فيكون مانعا من الرد .

                                      ( قلت : ) وهو كذلك ، بل يجف بنفسه في هذه الحالة كالنعل إلى أن يجف العرق ويكون نزعه من مصلحتها . قال الرافعي : ويعذر بترك العذار واللجام لأنهما خفيفان لا يعد تعليقهما على الدابة انتفاعا ، ولأن القعود يعسر دونهما ، وهذا المعنى يقتضي جواز تعليقهما ابتداء في مدة طلب الخصم وهو كذلك ولو أنعلها في الطريق قال أبو حامد : إن كانت تمشي بلا نعل بطل حقه وإلا فلا ، ولو كان أنعلها ثم اطلع على عيب فنزعه بطل خياره . قاله صاحب التلخيص تخريجا وعلله البغوي . لأن نزعه يعيب الدابة بالنقب الذي يبقى . قال : فإن كانت النقبة موجودة عند البائع فأنعلها المشتري فالنزع لا يبطل حقه من الرد . فتلخص من هذا أن اللجام والعذار والرسن يجوز تركه ونزعه ، والنعل لا يجوز نزعه إلا في الصورة التي استثناها البغوي فكاللجام يجوز تركه ونزعه والإكاف لا يجوز تركه ، فهذا ما ذكره هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم . ونقل صاحب التتمة عن أبي حنيفة جواز الاستخدام ورد عليه .

                                      ونقل القاضي حسين وغيره أن الشافعي رحمه الله نص على أنه لو كانت دابة فركبها بطل حق الفسخ ، وقال أبو العباس : إنما أراد به [ ص: 351 ] إذا ركبها استعمالا ، فإذا ركبها ليسقيها ويردها على المالك أو كانت جموحا لا تسير بنفسها لم يبطل حقه من الفسخ . وإن كانت ذلولا لا تحتاج في سيرها إلى الركوب بطل حقه من الفسخ ، كما لو قصد به الانتفاع بركوبها ، وهذا النقل عن الشافعي بإطلاقه ، وعن ابن سريج بتفصيله مخالف ما ذكر المصنف رحمه الله من جواز الركوب مخالف لما نقله الماوردي عن ابن سريج فيما تقدم . قال ابن الرفعة : ولعل عنه وجهين ، أو أن هذا من تأويله للنص ، فيكون مذهبا للشافعي رحمه الله عنده ، ذاك من تخريجه فيما ذكره المصنف حينئذ ، وجزم مخالف لما قاله هؤلاء الأئمة ، ومخالف لما نسبوه إلى نص الشافعي ، ولولا هذا النص الذي نقلوه لكنت أرجح ما ذكره المصنف لموافقة ابن الصباغ والجرجاني لا سيما نقل ابن الصباغ عن الأصحاب واستدلوا له بأنها لو ولدت في هذه الحالة كان الولد للمشتري لبقاء ملكه ، ولعل طريقة العراقيين كما قاله المصنف ، فإن القائلين بخلافه أكثرهم من الخراسانيين ، وأصلهم القاضي حسين والفوراني ، ولم أر من وافقهم من غيرهم إلا صاحب التلخيص فيه ، وفي المفتاح وابن خيران الأخير على أن أبا الخير بن جماعة المقدسي شارح المفتاح ذكر فيه أن ركوب الدابة في الطريق لا يبطل حقه كما ذكره المصنف . وبالجملة فالمعول عليه في ذلك كما قاله الإمام والغزالي العرف .

                                      فينبغي أن لا يحكم على شيء من الاستعمالات بقطع الخيار إلا إذا دل دلالة ظاهرة على الرضا ، كالوطء ولبس الثوب والقرض على البيع وشبهه ، أما ما لا يدل عليه أو يتردد فيه فينبغي أن نستلزم معه أصل الخيار ، ولا نحكم بالرضا بغير ما يدل عليه ، فإن خيار الرد ثبت قطعا ، والمبادرة حصلت ، والذي قارنها من الاستعمالات لا يدل على الرضا ; لأن فرض المسألة كذلك فالحكم بالرضا إذ ذاك يكون حكما بغير دليل وهذا كله إذا قلنا : لا يجب التلفظ بالفسخ حالة الاطلاع على العيب ، أما إذا أوجبناه لا تأتى المسألة لأنه إن تلفظ به لم يجز الاستعمال بعد ذلك بخروجه عن ملكه ، وإن لم يتلفظ به بطل الرد بالتأخير . ولما كان القاضي حسين يرى وجوب المبادرة إلى التلفظ بالفسخ [ ص: 352 ] لا جرم هو من القائلين بأن الاستعمال والاستخدام يبطل الرد ، والمبطل عنده في الحقيقة هو التأخير ، لا خصوص الاستعمال ، فيجب التنبيه لذلك ، فإن القاضي حسين رأس الخراسانيين ، وقال ذلك على رأيه ، والصحيح خلافه ، وأن التلفظ بالفسخ غير واجب والملك للمشتري باق في زمن الرد ، فلا وجه لمنعه من تصرف لا يدل على الرضا . وهذا كله في مسألة الركوب ونحوها والقائلون بأن الركوب مبطل يقولون : إنه لو كان راكبا فاطلع على العيب ينزل على الفور ، فلو استدام بطل حقه لأن استدامة الركوب ركوب . أما العلف والسقي فلا يضر . هكذا جزموا به ولا أظنه يجيء فيه خلاف ; لأن ذلك مصلحة خالصة للدابة ، لكن تعليل المصنف بأن ذلك حق له إلى أن يردها يقتضي التفرقة بين ذلك وبين الركوب .

                                      ( وأما ) مسألة الحلب فكذلك جزموا بها ، ونسبها بعض المصنفين إلى بعض الأصحاب وينبغي التفصيل ، فإن كان ترك الحلب يضر بها لكثرة اللبن في ضرعها فلا يجيء فيه خلاف كالعلف والسقي ، فإن لم يكن كذلك فهو كالركوب للانتفاع ، فعلى ما ذكره المصنف ومن وافقه يجوز ، وعلى ما صححه الرافعي والجمهور يمتنع ، ونسب الروياني في البحر جواز الحلب إلى أصحابنا ، وقيده بأن تكون سائرة فلو وقفها للحلب بطل الرد .



                                      ( فرع ) إذا كان في رد المبيع مؤنة فالمؤنة على المشتري ، قاله صاحب التتمة وغيره . قال : لأن البيع مضمون في يده ، والمال إذا كان مضمون العين كان مضمون الرد ( قلت ) وهذا ظاهر إذا لم يتلفظ بالفسخ . أما إذا تلفظ به حيث أمرناه ، أما إذا قدر على الشهود على الصحيح وأما وحده على رأي القاضي حسين وبالفسخ خرج عن ملكه ، وقد صرح الرافعي بأن مؤنة الرد بعد الفسخ على المشتري . وصرح هو والمتولي بأنه لو هلك في يده ضمنه . وقد يقال : ينبغي أن يكون حكمه حكم الأمانات الشرعية والعين المستأجرة بعد انقضاء المدة ، فيجب عليه الرد ، لكن ليست العين مضمونة عليه . وحكم المؤنة في زمن الرد حكمها في العين المستأجرة بعد انقضاء المدة ، لكن الجواب عن هذا أن أصل هذه اليد الضمان . فيستصحب حكمها كالعارية المؤقتة إذا [ ص: 353 ] انقضت بخلاف العين المستأجرة ، فإنها كانت أمانة ، وقد ذكر القاضي حسين في فتاويه جملة من هذه المسائل .

                                      ( منها ) إذا فسخ البيع بالعيب أو بخيار الشرط أو الإفلاس ، فمؤنة الرد على المشتري ومؤنة رد المرهون على الراهن ، والقيم إذا ظهرت خيانته أو عزل والمال في يده فمؤنة الرد إذا صار مضمونا على القيم ، وإذا أراد الرد بعد بلوغ الصبي فعلى الصبي ويرد مسلم الموصى إلى الموصى له على الموصى له ومؤنة رد العين المستأجرة بعد المدة على المالك يعني على خلاف فيه ، فالصداق إلى الزوج إذا طلق قبل الدخول أو ارتدت أو فسخ النكاح على الزوج ; لأنه أمانة في يدها ، هكذا قال القاضي ، وهو طريق المراوزة وطريق العراقيين ، وهي الأصح أنه مضمون عليها . ومنها أيضا مسألة ابتدأ بها القاضي هذه المسائل . وهي إذا سلم العبد الجاني ، واحتيج إلى بيع رقبته في أرش جنايته ، فمؤنة البيع من أجرة الدلال وغيره على من أجاب ، يحاص من ثمن العبد الجاني للمجني عليه قدر أرش الجناية ( قلت ) فلو كانت الجناية تستغرق ثمن العبد فلم يتعرض القاضي لها ، وقد رأيت في شرح المهذب لأبي إسحاق العراقي فيما إذا كسر ما لا يوقف على عيبه إلا بكسره قال : إذا احتاج في رده إلى مؤنة .

                                      ( فإن قلنا ) ليس للمشتري الرد ويرجع بالأرش كانت مؤنة رده عليه لأنه ملكه ( وإن قلنا ) له الرد كانت مؤنته على البائع لأنه عاد إلى ملكه . وهذا كلام عجب ، ولا أدري من أين له ؟ والصواب ما تقدم .



                                      ( فرع ) اشترى عبدا فوجد به عيبا ففصده وقال : ظننت أني لو فصدته أو حجمته زال عنه ذلك العيب ففصده فلم يزل ، قال القاضي حسين في الفتاوى : يبطل حقه من الرد لأن فصده رضا منه بالعيب ، فإن أراد التخلص من ظلامته يفسخ أولا ثم يفصد ، فإن هلك فهو من ضمان المشتري بالقيمة .

                                      ( قلت ) وفي جواز فصده بعد الفسخ وهو ليس بملكه إشكال ، قال جامع الفتاوى : إنه على هذا عندي إذا فسخ بين يدي البائع ، أو فسخ واشتغل بطلبه ( أما ) إذا فسخ في غيبته والتواني في رده بطل [ ص: 354 ] حقه . قال : وهو مشكل . قلت : الإشكال الذي ذكرته في جواز الفصد باق . وزاد في هذا الكلام إشكالا آخر وهو أنه بعد الفسخ يبطل حقه بالتواني . والظاهر أنه بعد الفسخ ينتقل الملك عنه ولا يبقى إلا المنازعة . فإن صدقه البائع أو كانت بينة فلا يضره التواني . وإنما تعتبر المبادرة عند من يرى التلفظ بالفسخ على الفور لأجل إنكار المشتري فليتأمل كل من الكلامين فإنه مشكل ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية