الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون

                                                          [ ص: 2268 ] ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة بعض صفات اليهود، وضعف من يواليهم، ويركن إليهم؛ إذ يركن إلى الذين ظلموا فتمسهم النار، وذكر طبائعهم الحيوانية التي تشبه الخنازير في شراهتها، والقرود في نزواتها، بين بعض ما يترتب على هذه الدخيلة من مظاهر في أعمالهم، وأولها النفاق في أقوالهم، وأكلهم سحت المال في معاملاتهم، ومسارعتهم إلى كل معصية وعدوان، ولذا قال سبحانه: وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، وقد كان ذلك يتكرر منهم استهزاء وسخرية أو نفاقا، ومخادعة أو الأمران معا، كان ذلك يتكرر منهم، ولم يكن مرة أو اثنتين، بل كان يتكرر من غير عدد، ولذلك قال سبحانه في أحوالهم: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون

                                                          وقال سبحانه وتعالى فيهم: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون

                                                          وكان الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين ليذكرهم بصفات المنافقين واليهود، وليؤكد لهم أنهم لا يصلحون أن يكونوا أولياء لكم; لأن الولي النصير أو المحب يجب أن يفتح قلبه لك، ويخلص لك الود، ويمحض لك المحبة، واليهودي ومحبته للناس نقيضان لا يجتمعان، فلا تتخذوا منهم معشر المؤمنين أولياء؛ لأنه لا ولاء لمنافق، ولا محبة من حقود حاسد، وقد كان ذلك تصويرا لحالهم، في نفاقهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقد صور ذلك سبحانه بقوله تعالت كلماته: وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به أي: أنهم كانوا على ما هم عليه عندما دخلوا وعندما خرجوا دخلوا كافرين، وقد قال النحويون: تكون للتكثير أو للتقليل عندما تدخل على المضارع، وتكون للتقريب أو التحقيق عندما تدخل على الماضي، [ ص: 2269 ] ورأى أن أكثر استعمال القرآن الكريم لها للتحقيق، لا للتقليل ولا للتكثير، ولذلك يقول سبحانه: قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ويقول تعالت كلماته: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون وواضح أن " قد " في الماضي للتحقيق في قوله تعالى حكاية عن قول سيدنا المسيح يوم القيامة: قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته ألا ترى أن "قد" دخلت على علم الله تعالى وهو مؤكدا إذا حصل موضوعه.

                                                          و: " قد " هنا قال المفسرون للتقريب، أي: أنها قربت الماضي من الحال القائمة، والجملة الماضوية لا تكون حالا إلا إذا جاء معها قد، ليكون معنى التقريب قائما، وهو تقريب الحال القائمة من الماضي المستقر، والمعنى أنهم دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين.

                                                          وأرى أن " قد " هنا للتحقيق، وتأكيد المعنى، والباء للمصاحبة، والمعنى: دخلوا مصاحبين لكفرهم المؤكد وخرجوا مصاحبين للكفر المؤكد، وقد تأكدت حالهم الأولى بالتعبير بقد، وتأكدت حالهم وهي الخروج بالكفر بقد وبهم، فكان تأكيد مصاحبتهم للكفر وهم خارجون أقوى من تأكيدها وهم داخلون، وهذا للإشارة إلى أنهم ما دخلوا بقلب سليم، بل دخلوا مخادعين منافقين، ودخولهم على هذه النية المحتسبة عليهم تزيدهم كفرا ونفاقا؛ لأنهم كلما لاح دليل زادهم عنتا، وزادهم كفرا على كفرهم، والتعبير بـ: (هم) الدالة على القصر فيه إشارة إلى أنهم مقصورون في خروجهم على الكفر ليس لهم حال سواه، وذلك فضل تأكيد.

                                                          والله أعلم بما كانوا يكتمون صدر الله سبحانه وتعالى النص الكريم بلفظ الجلالة لتربية المهابة، ولبيان أنه الناصر والولي الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء، وأن تدبيره فوق كل تدبير، وعلمه فوق كل علم، [ ص: 2270 ] وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه لا يوجد من يكون علمه من جنس علمه، حتى يكون علم أكبر وأعظم، بل المراد -والله سبحانه وتعالى العليم- أن الله تعالى يعلم ما يخفون علما لا يدانيه علم، وليس فوقه علم، وهو أعلى ما يتصور من علم، فعبر بأفعل التفضيل تقريبا لا تحقيقا.

                                                          والتعبير بقوله تعالت كلماته: بما كانوا يكتمون بالجمع بين الماضي والمستقبل يفيد أنه يعلم بما كتموه في الماضي، وما يكتمونه في الحاضر والقابل، فهو سبحانه يعلم ماضي أمرهم، وحاضره، ومغيبه، ولفظة كانوا على هذا المعنى تفيد العلم المستمر.

                                                          بعد ذلك بين الله سبحانه أخلاقهم بعد أن بين معاملتهم لأهل الإيمان فقال تعالت كلماته:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية