الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( باب ما يكون الإقرار )

( قال ) رحمه الله : رجل قال لآخر : اقضي الألف التي عليك ، فقال : نعم ، فقد أديتها ; لأن قوله نعم لا يستقل بنفسه ، وقد أخرجه مخرج الجواب ، وهو صالح للجواب فيصير ما تقدم من الخطاب كالمعاد فيه فكأنه قال نعم أعطيك الألف التي لك علي . وعلى هذا الأصل ينبني بعض مسائل الباب وبعض المسائل مبنية على أنه متى ذكر في موضع الجواب كلاما يستقل بنفسه ويكون مفهوم المعنى يجعل مبتدئا فيه لا محالة إلا أن يذكر فيه ما هو كناية عن المال المذكور فحينئذ لا بد من أن يحمل على الجواب ، وبيان ذلك إذا قال سأعطيكها أو غدا أعطيكها أو سوف أعطيكها فإن الهاء والألف كناية عن الألف المذكورة فصارت إعادته بلفظ الكناية كإعادته بلفظ الصريح بأن يقول سأعطيك الألف التي لك علي . وكذلك إذا قال فأقعدها فأثر بها فانتقدها فأقبضها أو لم يقل أقعد ، ولكن قال أبرها أو انتقدها أو خذها ; لأن الهاء والألف في هذا كله كناية عن المال المذكور فلا بد من حمل كلامه على الجواب بخلاف ما إذا قال : أثرن أو انتقد أو خذ فلهذا لا يكون إقرارا ; لأن هذا الكلام يستقل بنفسه ، وليس فيه ما هو كناية عن المال المذكور فيحمل على الابتداء ، وهذا لأنه مبتدئ بالكلام حقيقة فترك هذه الحقيقة إلى أن [ ص: 16 ] يجعل كلامه للجواب لضرورة ولا ضرورة هنا فجعلنا ابتداء ومعنى قوله أثرن أي اقعد وأرث للناس واكتسب به ولا تؤذيني بدعوى الباطل .

وكذلك قوله ابتعد وقوله خذ أي خذ حذرك مني فلا أعطيك شيئا بدعوى الباطل فلهذا جعلناه ابتداء ، ولو قال لم تحل بعد فهذا إقرار فإن التاء في قوله لم تحل كناية عن الألف فكان كلامه جوابا ، وهذا اللفظ منه دعوى التأجيل ولن يكون الأجل إلا بعد وجوب أصل المال فلهذا كان مقرا بأصل المال . وكذلك لو قال غدا ; لأن هذا غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من حمله على الجواب وهذا استمهال للقضاء إلى الغد وهذا لا يكون إلا بعد وجوب المال . وكذلك لو قال أرسل غدا من يزنها أو من يقبضها ; لأن الهاء والألف كناية عن الألف فلا بد من حمل كلامه على الجواب ومطالبته بإرسال من يستوفي منه لا يكون إلا بعد وجوب المال عليه . وكذلك لو قال ليست اليوم عندي ; لأن التاء كناية عن المال المذكور والتعلل بالعشرة لا يكون إلا بعد وجوب المال فكان مقرا بها . وكذلك لو قال ليست بمهيأة اليوم بميسرة اليوم ، وفي بعض النسخ ليست بميسرة اليوم فهو جواب ; لأن التاء كناية عن الألف . وكذلك لو قال أجلني فيها فطلب التأجيل لا يكون إلا بعد وجوب المال ، والهاء والألف كناية عن المال المذكور فكان كلامه جوابا . وكذلك لو قال ما أكثر ما يتقاضى بها . وكذلك لو قال أعممتني بها أو أبرمتني بها أو أديتني فيها ; لأن التبرم من كثرة المطالبة لا يكون إلا بعد وجوب المال فإنه لا يتحمل هذا الأذى ولا انتقاد لهذه المطالبة إلا إذا كان المال واجبا . وكذلك لو قال : والله لا يكون لا أفضكها ولا أزنها لك اليوم أو لا يأخذها مني اليوم ، الكناية المذكورة في حرف الجواب ; لأنه بقي القضاء والوزن والأخذ في وقت بعينه ، وذلك لا يكون إلا بعد وجوب أصل المال ، فإذا لم يكن أصل المال واجبا فالقضاء يكون منتفيا أبدا فلا يحتاج إلى تأكد نفي القضاء باليمين ; لأنه في نفسه منتف ، ولو قال حتى يدخل علي مالي أو حتى يقدم علي غلامي فهذا إقرار ; لأن كلامه غير مستقل بنفسه فإن حتى للغاية فلا بد من شيء آخر ليكون ما ذكر غاية له ، وليس ذلك إلا بالمال المدعى فكأنه قال لا أفضكها حتى يدخل علي مالي .

التالي السابق


الخدمات العلمية