الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 340 ] 646 باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ادعى قوم أنه يدل على جواز الاعتكاف بغير صوم .

4149 - حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع . عن ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام فقال : ف بنذرك .

قال أبو جعفر : وليس في هذا الحديث ذكر ما كان عمر نذر أن يعتكف فنظرنا في ذلك .

4150 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : حدثنا [ ص: 341 ] يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا يحيى بن سعيد ، ثم ذكر بإسناده مثله ، إلا أنه قال : نذرت أن أعتكف ليلة .

4151 - حدثنا علي بن شيبة حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي حدثنا حفص بن غياث وحدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا حفص ، عن عبيد الله ، عن نافع . عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن عمر قال قلت : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية نذرا وقد جاء الله بالإسلام فقال : ف بنذرك ، ولم يذكر في هذا الحديث ما الذي كان نذره فنظرنا في ذلك .

4152 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا حفص ، ثم ذكر بإسناده مثله غير أنه قال : [ ص: 342 ] إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فعاد هذا الحديث إلى أن النذر كان اعتكاف ليلة ، فذهب قوم إلى إجازة الاعتكاف بلا صيام ، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث ، فنظرنا في ذلك هل خولف يحيى وحفص على عبيد الله في هذا الحديث وفي النذر الذي كان من عمر رضي الله عنه ما كان .

4153 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحكم الكردي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال : سمعت عبيد الله ، عن نافع . عن ابن عمر أن عمر قد كان جعل عليه يوما يعتكفه في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمره أن يعتكف .

4154 - ووجدنا محمد بن علي بن داود البغدادي قد حدثنا ، قال : حدثنا خلف بن هشام البزار ، حدثنا علي بن مسهر ، عن عبيد الله ، عن نافع . [ ص: 343 ] عن ابن عمر ، عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف يوما في المسجد الحرام ، فلما أسلم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أوف بنذرك ففعل .

فوقفنا بذلك على اختلافهم عن عبيد الله في هذا الحديث وأن بعضهم يرويه عنه أن النذر كان ليلة ، وأن بعضهم يرويه عنه على أن النذر كان يوما ، فلم تكن إحدى الروايتين أولى من الأخرى ، ثم نظرنا هل روى هذا الحديث عن نافع غير عبيد الله لنقف على ما رواه عليه عنه كيف هو .

4155 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ووجدنا عبد الملك بن أبي الحواري البغدادي قد حدثنا ، قال : حدثنا الحميدي ، قالا : حدثنا سفيان حدثنا أيوب السختياني هكذا في حديث عبد الملك وفي حديث أحمد ، عن أيوب السختياني ، عن نافع . عن ابن عمر قال : كان على عمر اعتكاف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يعتكف وأن يفي بنذره .

[ ص: 344 ] فكان في هذا الحديث أن نذر عمر ذلك كان ليلة فنظرنا هل خولف سفيان ، عن أيوب في ذلك .

4156 - فوجدنا يونس قد حدثنا ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني جرير بن حازم ، أن أيوب حدثه ، أن نافعا حدثه . أن عبد الله بن عمر حدثه ، أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام فكيف ترى ؟ قال : اذهب فاعتكف يوما .

4157 - ووجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن نافع . عن ابن عمر فذكر مثله .

فكان في روايتي جرير ومعمر ، عن أيوب هذا الحديث أن نذر عمر كان يوما لا ليلة ، وأن النبي عليه السلام أمره لنذره ذلك أن يعتكف يوما لا ما سواه ، ولما جاء هذا الحديث من روايتي عبيد الله وأيوب [ ص: 345 ] عن نافع كما ذكرنا انتفى أن يكون فيه حجة لمن يذهب إلى إجازة الاعتكاف بلا صيام على من لا يجيزه إلا بصيام ، ثم نظرنا هل روي في هذا الباب أيضا شيء مما يدل على أن النذر كان على ما لا يكون إلا بصيام ، وهو اليوم أو على ما قد يكون بغير صيام وهو الليلة .

4158 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : أخبرنا أبو بكر بن علي بن سعيد حدثنا الحسن بن حماد الوراق حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن عبد الله بن بديل بن ورقاء ، عن عمرو بن دينار .

عن ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتكاف عليه فأمره أن يعتكف ويصوم .

قال أبو جعفر : فذكرت ذلك لعلي بن سعيد بن بشير الرازي فقال : حدثنيه عثمان بن أبي شيبة ، عن عمرو بن محمد العنقزي ، عن عبد الله بن بديل ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر كما ذكرت .

4159 - ووجدنا في كتابنا ، عن إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، عن هارون بن عبد الله يعني الحمال ، قال : حدثنا أبو عامر العقدي [ ص: 346 ] حدثنا عبد الله بن بديل بن ورقاء ، ثم ذكر بإسناده مثله .

فوقفنا بذلك على أن نذر عمر رضي الله عنه الذي كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفي به كان مما يكون فيه الصوم وهو النهار لا مما لا يكون فيه الصوم وهو الليل ، ووجدنا في ذلك أيضا مما يؤكد أن نذر عمر كان لما قد يكون فيه الصوم ، لا لما لا يكون فيه الصوم .

ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي حدثني عبد الله بن وهب أخبرني ابن جريج ، عن عطاء . عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن عمر قالا : لا جوار إلا بصوم ، فاستحال أن يكون ابن عمر قد وقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم على إطلاقه - كان لعمر - اعتكاف ليلة لا صوم فيها ، ثم يقول هذا القول .

فقال قائل : فإن عبد الله بن المبارك قد روى هذا الحديث عن ابن جريج بما يوجب فساد إسناده .

وذكر ما قد حدثتا يحيى بن عثمان بن صالح حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن المبارك أخبرنا ابن جريج أنه سمع عطاء يقول : [ ص: 347 ] أخبرنا بعض أصحابنا . عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يقولان : لا جوار إلا بصيام ، قلت : أثبت عنهما ؟ قال : نعم .

فكان جوابنا له في ذلك أنه ليس في ما ذكر ما يجب به فساد إسناد هذا الحديث ; لأن فيه إخبار عطاء أن الذي حدثه به من أصحابه عن ابن عمر وابن عباس ثبت ، وذلك مما يغني عن تسميته إياه .

ثم نظرنا فيمن روي عنه من هذا شيء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فوجدنا مالك بن يحيى الهمداني قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا الأشجعي حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء . عن عائشة قالت : من اعتكف فعليه الصوم .

فهذه عائشة تقول هذا القول وقد روي عن ابن عباس ما قد ذكرناه عنه ، وروي عنه أيضا فيه .

ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق حدثنا يعقوب بن إسحاق [ ص: 348 ] الحضرمي حدثنا شعبة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي فاختة مولى جعدة بن هبيرة قال : سمعت ابن عباس يقول : لا اعتكاف إلا بصوم .

وما قد حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي فاختة .

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : المعتكف عليه الصوم .

وما قد حدثنا الربيع المرادي حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سفيان الثوري ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي فاختة .

[ ص: 349 ] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : المعتكف المجاور يصوم .

وما قد حدثنا عبد الملك بن أبي الحواري حدثنا الحميدي ، عن سفيان بن عيينة حدثنا عمرو أخبرنا أبو فاختة سعيد بن علاقة قال : سمعت ابن عباس يقول : يصوم المجاور ، والمجاور المعتكف .

وما قد حدثنا عبد الملك حدثنا الحميدي أخبرنا سليمان بن حرب أن حماد بن زيد حدثه . أن رجلا قال لعمرو بن دينار يا أبا محمد كيف قول ابن عباس على المجاور الصوم ؟ قال : ليس كذا قال ابن عباس ، إنما قال : المجاور يصوم .

[ ص: 350 ] فقال قائل : فهذا يدل على أن ما روي عن ابن عباس في هذا إنما هو صوم المجاور على الاختيار لا على الوجوب .

فكان من حجتنا عليه في ذلك أن الذي ذكره ليس كما ذكره ، وكيف يكون ذلك كذلك ، والذي نحيط به علما أن أحدا لا يقع بقلبه أن الصوم مكروه في الجوار ، فيحتاج إلى أن يقال له هذا القول لينطلق له به الصوم في الجوار ، ولكنه عندنا على موافقة ما قد رواه شعبة وهشيم ، عن عمرو بن دينار ، كما ذكرنا من وجوب الصوم في الاعتكاف .

ثم وجدنا عن ابن عباس في ذلك .

ما قد حدثنا عبد الملك بن أبي الحواري ، عن الدراوردي ، أخبرني أبو سهيل بن مالك قال : اجتمعت أنا وابن شهاب عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وكان على امرأتي اعتكاف ثلاث في المسجد الحرام ، فقال ابن شهاب : لا يكون اعتكاف إلا بصوم ، فقال عمر بن عبد العزيز : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، قال : أفأمر أبي بكر رضي الله عنه ؟ قال : لا ، قال : أفأمر عمر رضي الله عنه ؟ قال : لا ، قال : أفأمر عثمان رضي الله عنه ؟ قال : لا ، قال أبو سهيل : فانصرفت فوجدت طاوسا وعطاء فسألتهما عن ذلك ، فقال طاوس : كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صياما إلا أن يجعله على نفسه ، قال عطاء : ذلك رأيي .

[ ص: 351 ] فكان في هذا الحديث ، عن ابن عباس أنه كان لا يرى على المعتكف صياما . وقد روينا عن عائشة رضي الله عنها أن من اعتكف كان عليه الصوم .

فوقفنا بذلك على أن هذا الباب مما قد تكافأت الأقوال فيه ، وما كان كذلك وجب أن يرجع فيه إلى النظر ، فيكون هو الذي يقضي بين المختلفين فيه . فنظرنا في ذلك ، فوجدنا من حجة من ذهب إلى أن الاعتكاف يكون بلا صيام ، وممن ذهب إلى ذلك الشافعي ، يستدل على ما قاله من ذلك أنه قد نجد المعتكف يدخل عليه الليل الذي لا يكون فيه صائما ، ويكون فيه معتكفا ، فاستدل بذلك على جواز الاعتكاف بلا صيام .

فوجدنا من الحجة عليه في ذلك لمخالفيه فيه - وهم أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك وأصحابه ، والثوري وأصحابه - أنا قد وجدنا الاعتكاف لا يخرج منه بدخول الليل على المعتكف الذي لا يصلح صومه فيه ، وقد وجدنا مثل ذلك ، وهو أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد التي يعتكف فيها ، ولا يكون في الطرقات ولا في سوى المساجد ، وقد وجدنا المعتكف يخرج من المساجد للغائط وللبول ، فيصير في المنازل والطرقات التي لا يصلح له الاعتكاف فيها ، ولا يكون بذلك خارجا عن اعتكافه ; إذ كان لا بد له من ذلك . فمثل ذلك دخول الليل عليه الذي لا صوم فيه في اعتكافه لا يكون ذلك مخرجا له من اعتكافه ، بل دخول الليل عليه فيما ذكرنا لا فعل له فيه ، فلم يخرجه من [ ص: 352 ] اعتكافه ، والخروج من المساجد إلى ما ذكرنا بفعله كان ذلك . وإذا كان بفعله مما لا يصلح فيه ابتداء الاعتكاف عليه مما ذكرنا لا يخرجه من اعتكافه ، كان دخول الليل عليه الذي لا فعل له فيه أحرى أن لا يخرجه من اعتكافه .

ثم قد وجدنا الاعتكاف إنما هو اللبث في المساجد ، فنظرنا في اللبث في الأماكن التي اللبث فيها قربة : هل يكون ذلك في تحرم من اللبث فيها ، أو يكون بلا تحرم منه في لبثه ، فوجدنا منى وعرفة ومزدلفة اللبث فيها في حرمة الحج قربة ، وهو اللبث الذي له معنى ، ووجدنا اللبث فيها في غير الحج ليس كذلك ، ولا حكم له يبين اللابث فيه عن لبثه فيما سواه من البيوت . فكان مثل ذلك اللبث في المساجد إذ كان في حرمه بان بذلك اللابث فيه عن اللابث فيما سواه من البيوت وما أشبهها ، ولا تكون حرمة يكون في ما لبثه فيها في تلك الحرمة إلا حرمة الصيام ، فكان ذلك دليلا على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصيام .

فقال قائل : فقد روي عن يعلى بن أمية أنه كان يجلس في المسجد ساعة ويعد ذلك اعتكافا .

وذكر ما قد حدثنا فهد ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا حفص بن غياث ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال :

قال يعلى بن أمية لصاحب له : اجلس نعتكف ساعة في المسجد الحرام .

[ ص: 353 ]

وما قد حدثنا محمد بن عبد الرحيم الهروي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : كان يعلى بن أمية يجلس الساعة في المسجد ينوي به الاعتكاف .

فكان جوابنا له في ذلك أن هذا الحديث غير متصل بيعلى ; لأن عطاء إنما يروي أحاديث يعلى عن أبيه ، ولا نعرف له سماعا من يعلى ، ومعقول أن من قعد في المسجد لا يكون معتكفا ، ولو كان ذلك كذلك ، لكان كل من في المسجد معتكفا ، ولكنه عندنا - والله أعلم - أريد به الإقبال على المسجد بالقعود فيه ، فسمى نفسه بذلك معتكفا ، وليس ذلك الاعتكاف هو الاعتكاف المختلف فيه : هل يكون بصوم أو بغير صوم ، وقد قال الله عز وجل : سواء العاكف فيه والباد فلم يكن ذلك على الاعتكاف الذي ذكرنا ، وإنما كان ذلك على تساوي الخلق فيه ، وأنه ليس بعضهم أولى به من بعض .

والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية