الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا فتح الله تعالى باب القبول على اليهود والنصارى والصابئين، وقد أخذ سبحانه يبين كيف فتح الباب لهم من قبل ولكن غلقوه على أنفسهم، وقد ذكر سبحانه في هذا النص أمرين: أولهما: أنه تعالى أخذ عليهم الميثاق، والثاني: أنه أرسل رسلا ليسهل تنفيذ هذا الميثاق.

                                                          والميثاق عقد موثق مشدد فيه، كما يشد الوثاق، وهو مؤكد بيمين الله تعالى، والله تعالى قد أخذ هذا الميثاق على بني إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التي يكلفهم إياها، ولم يذكر هنا موضوع الميثاق، وقد ذكره في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، فترك هنا بيانه حملا عليها، ومن نصوص ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل قوله تعالى:

                                                          [ ص: 2299 ] لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون

                                                          وقد أكد الله سبحانه في الآية الكريمة التي نتكلم في معانيها أخذ ، باللام وب: "قد"، وبإضافة الأخذ إليه فقال سبحانه: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل

                                                          ومع أخذ الميثاق المؤكد، لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم الرسل من عنده ليؤكدوا الميثاق، ويبينوه ويعاونوهم على تنفيذه، وقد جاءت كلمة: رسلا بالتنكير، وهو هنا للتكثير، أي: أرسلنا إليهم رسلا كثيرة، ولم تكن نتيجة الميثاق وإرسال الرسل محمودة لهم، بل كانت منهم نكرا، ولذا قال سبحانه:

                                                          كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون لقد كان الحكم الذي ارتضوا حكومته هواهم وشهواتهم، فما يوافق هواهم اتبعوه، وما لا يوافق هواهم ردوه، فاتخذوا بذلك إلههم هواهم وضلوا عن علم، ووقعوا في الشر، فلم يجعلوا العقل والميزان هو الحكم الذي يقبلون ما يقبله، ويردون ما يرده، وإنه ترتب على تحكيم الهوى وسيطرته عليهم أن كذبوا فريقا واكتفوا بالتكذيب، وأن قتلوا فريقا.

                                                          وهنا بعض مباحث لفظية تبين منها معنى النص الكريم:

                                                          أولها: عدم وجود جواب الشرط، وهو "كلما"، فقال الزمخشري: قام مقامه فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، أو هو في الحقيقة جواب الشرط؛ لأن المعنى: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وفريقا قتلوه، وبعضهم قال: إن الجواب محذوف تقديره، و: "استكبرتم"، وأخذه من قوله تعالى في آية أخرى: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون

                                                          وإن الأوضح هو ما قرره الزمخشري; لأن قوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون تصلح جوابا، فلا حاجة إلى تقدير، وأما الآية الأخرى فقد جاءت الفاء في قوله: [ ص: 2300 ] ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون فكانت الجملة غير صالحة لأن تكون جواب الشرط، فكان لا بد من التصريح بجواب الشرط.

                                                          المبحث الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قسمهم فريقين فريقا كذبوه، وفريقا قتلوه، ولا شك أنه مع القتل التكذيب، ويكون المعنى على هذا أن هناك فريقا اكتفوا بتكذيب الرسول، وفريقا آخر ذهبت بهم اللجاجة في العناد وعداوة الهادين إلى أن يقتلوه.

                                                          والمبحث الثالث: التعبير عن التكذيب بالفعل الماضي فقال: فريقا كذبوا وعن القتل بالمضارع: وفريقا يقتلون وقد علل ذلك الزمخشري بأن المضارع يدل على استحضار الجريمة البشعة التي ارتكبوها، وهي أن يقتلوا هاديهم ومرشدهم، وهناك تعليل آخر، وهو أنهم على استعداد لأن يقتلوا خاتم الهداة محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وقد هموا ولم ينالوا.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية