الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الرابع والعشرون [ النكرة في سياق النفي ]

                                                      النكرة في سياق النفي " بما " ، أو " لن " ، أو " لم " ، أو " ليس " ، وسواء دخل حرف النفي على فعل نحو : ما رأيت رجلا ، أو على اسم نحو : لا رجل في الدار ، وسواء باشرها النفي نحو ما أحد قائما ، أو عاملها نحو : ما قام أحد ، ويدل له قوله تعالى : { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } وقال الآمدي [ ص: 150 ] في " أبكار الأفكار " : إنما تعم النكرة المنفية ، فأما التي ليست بمنفية لكنها في سياقه ، فلا تعم ، ولنا قوله تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } في جواب : { ما أنزل الله على بشر من شيء } ، فلو لم يكن العموم لم يلزم الرد عليه بالواحد ، والمعنى في ذلك أن النكرة غير مختصة بمعين ، كقولك : رأيت رجلا ، والنفي لا اختصاص له ، فإذا انضم النفي الذي لا اختصاص له ، إلى التنكير الذي لا يختص بمعين ، اقتضى ذلك العموم .

                                                      احتج الإمام فخر الدين بأنها لو لم تكن لنفي العموم لما كان " لا إله إلا الله " نفيا لدعوى من ادعى سوى الله ، ثم إن كانت النكرة صادقة على القليل والكثير كشيء وموجود ومعلوم ، أو ملازمة للنفي ، نحو أحد ، وما ألحق به مثل : غريب ، وداع ، ومجيب ، أو واقعة بعد " لا " العاملة عمل إن ، وهي " لا " التي لنفي الجنس ، مثل : لا رجل في الدار ، ببناء رجل على الفتح ، أو داخلا عليها من مثل : ما جاءني من رجل ، فإن كونها للعموم من الواضحات ، لكن هل استفيد العموم في قولك : ما جاءني من رجل ، من لفظة " من " أو كان مستفادا من النفي قبل دخولها ، ودخلت هي للتأكيد ؟ فيه قولان للنحويين ، والصحيح الثاني ، وهو قول سيبويه .

                                                      والأول قول المبرد ، حكاه في " الارتشاف " في الكلام على حروف الجر ، واختاره القرافي ، وزعم أنها لا تعم إلا إذا باشرتها " من " وتمسك بقول الزمخشري في قوله تعالى : { ما لكم من إله غيره } إنما استفيد العموم من لفظة " من " ولو قال : ما لكم إله لم يعم ، مع أن لفظة إله نكرة ، وقد حكم بأنه لم يعم . [ ص: 151 ]

                                                      وقد ذكر الحريري والزمخشري ونازعه الأصفهاني ، وقالا : لا حجة في قول صاحب الكشاف مع نقل إمام الحرمين عن سيبويه : إن " ما جاءني رجل " عام ، والحق ( أنه ) إن أراد الزمخشري بكلامه ظاهره " ، فهو شذوذ ، ويحمل أن يريد ما أراده غيره من أنه بعد دخول " من " في النفي يكون العموم نصا ، ودونها ظاهرا ، والانتقال من الظهور إلى النص تأكيد تأسيس ، فإنه تقوية مجردة ، وكذلك ذهب جمهور النحاة إلى أن " لا " التي لنفي الجنس نص في العموم ، دون " لا " التي هي أخت ليس ، فإن معنى " من " متضمن مع الأولى دون الثانية . وقال ابن الصائغ رادا على من قال : " لا رجل " بنى لتضمنه معنى حرف الاستغراق ، وهو " من " .

                                                      قال سيبويه : إنه لا يقتضي عموم النفي .

                                                      وقال الشيخ أبو حيان : مذهب سيبويه أن ما جاءني من أحد ، وما جاءني من رجل ، " من " في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس ، وهذا هو الصحيح ، وقال إمام الحرمين في باب التأويل : هي للعموم ظاهرا عند تقدير " من " ، فإن دخلت " من " كانت نصا ، وهذا هو الحق .

                                                      ونقله ابن الخباز في " شرح الإيضاح " عن النحويين ، فقال : فرق النحويون بين قولنا : ما جاءني رجل ، وما جاءني من رجل ، أن الأول يحتمل نفي واحد من الجنس ، فلو جاء اثنان أو ثلاثة كان صادقا ، والثاني لا يحتمل إلا نفي جميع الجنس قليله وكثيره ، فلو قلت : بل رجلان كان كذبا ، وكذا قال أبو البقاء إلا أنه فرق بين دخول " من " على أداة [ ص: 152 ] عموم كأحد فجعلها مؤكدة للعموم ، وبين دخولها على غيره كرجل ، فجعلها مقيدة له ، وهذا هو الصواب .

                                                      وقال القاضي عبد الوهاب في " الإفادة " : قد فرق أهل اللغة بين النفي في قوله : ما جاءني أحد ، وما جاءني من أحد وبين دخوله على النكرة من أسماء الجنس ، في ما جاءني رجل ، وما جاءني من رجل ، فرأوا تساوي اللفظين في الأول . وأن " من " زائدة فيه ، وافتراق المعنى في الثاني ; لأن قوله : ما جاءني رجل ، يصلح أن يراد به الكل ، وأن يراد به رجل واحد ، فإذا دخلت " من " أخلصت النفي للاستغراق ، وغيرت الفائدة ا هـ .

                                                      لا : لو لم يفد العموم مع عدمها لم يفد في قوله تعالى : { لا يعزب عنه مثقال ذرة } { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } ونحوها ، مما لا شك في إفادته العموم ، وليس هناك " من " ، وأيضا فإنها دالة على الماهية ، فدخول النافي ينفي معناها بطريق الأصالة ، وهو مطلق الماهية ، ويلزم منه العموم ، وتسميتهم " لا " لنفي الجنس ، وهو بانتفاء كل فرد .

                                                      أما النكرة المرفوعة بعد " لا " العاملة عمل ليس ، نحو لا رجل في الدار فهي لنفي الوحدة قطعا ، لا للعموم ، ولهذا يقال في توكيده : بل رجلان أو رجال ، ولا يصح أن يقال : لا رجل بالفتح ، بل رجلان ، وذلك يدل على اقتضاء الثاني التعميم دون الأول ، وأن المنفي في حالة الرفع " الرجل " المقيد بقيد الوحدة ، وذلك لا يعارضه وجود الاثنين أو الجمع ، بخلاف المنفي حالة الفتح ، فإن المنفي فيه الحقيقة لا بقيد الوحدة ، وذلك [ ص: 153 ] ينافيه ثبوت الفرد ، لأنه متى ثبت فرد ثبتت الحقيقة بالضرورة .

                                                      هكذا قاله القرافي ، وحكاه عن سيبويه ، والمبرد ، والجرجاني في أول " شرح الإيضاح " ، وابن السيد في " شرح الجمل " والزمخشري ، وغيرهم ، وتبعه الأصفهاني في " شرح المحصول " ، وحكاه الشيخ في " شرح العنوان " عن بعض المتأخرين ، ولم ينكره ، وصرح به العلم القرافي في " مختصر المحصول " .

                                                      وحكاه الإبياري في " شرح البرهان " و القرطبي في أصوله عن النحاة ، قال : وظاهر كلام الأصوليين التسوية بينها وبين المبنية على الفتح ، والصواب عدم اقتصارها على نفي الوحدة ، بل يحتمل أن تكون لنفي الجنس ، وأن تكون لنفي الوحدة ، ويقال في توكيده على الأول : بل امرأة ، وعلى الثاني بل رجلان أو رجال .

                                                      وقد قال الشاعر :

                                                      تعز فلا شيء على الأرض باقيا



                                                      وقد نقل الشيخ أبو حيان عن سيبويه أنها لتأكيد الاستغراق مع الإعراب في قولك ما جاء من أحد ، وما قام من رجل . ونقله عنه من الأصوليين إمام الحرمين في كلامه على حروف المعاني ، فقال : قال سيبويه : إذا قلت : ما جاءني رجل ، فاللفظ عام ، ولكن يحتمل أن يؤول بما جاءني رجل ، بل رجلان ، فإذا قلت : ما جاءني من رجل ، اقتضى نفي جنس الرجال على العموم من غير تأويل . [ ص: 154 ]

                                                      وقد ذكر القرافي هذا النص ، ولكنه قال : لم أجده في كتاب سيبويه ، وسألت عنه من هو عالم بالكتاب ، فقال : لا أعرفه ، وهذا ضعيف ، فإن المثبت مقدم على النافي ، وقد صنف ابن خروف في مواضع نقلها إمام الحرمين عن سيبويه ، ولم يرها في كتابه ، ولم يذكر هذا منها .

                                                      والذي ينبغي أن يقال : إن دلالة هذه الأقسام على العموم متفاوتة ، وتجيء على مراتب : فأدناها ما جاءني رجل ، لعدم دخول " من " ولعدم اختصاص رجل بالنفي ، وهي ظاهرة في العموم لا نص ، وأعلاها ما جاءني من أحد ، لانتفاء الأمرين ، وهذا نص في العموم والمرتبة المتوسطة ما جاءني من رجل ، وما جاءني أحد ، وهي تلحق بالقسم الثاني وتلحق به النكرة المبنية مع " لا " على الفتح ، فأما المرفوعة فليست نصا ، بل ظاهر ، كالقسم الأول . تتمات

                                                      الأولى : أن حكم المنهي في ذلك حكم المنفي ، كقولك : لا تعظ ناسا ولا تعظ رجالا ، كما قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني .

                                                      الثانية : زعم أبو الحسين في " المعتمد " أن النكرة في النفي أفادت العموم بصيغتها لا بزيادة عليها ، وصرح الرازي بخلافه وهو الحق ، لأن لا رجل عمت بزيادة دخلت على رجل ، وكذا قال إلكيا الطبري ، إنما عمت النكرة لضرورة صحة الكلام ، وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام لا أنه يتناول الجمع بصيغته ، فالعموم فيه من القرينة ، هذا لفظه ، وقطع به أبو زيد الدبوسي في " التقويم " فقال : النكرة عمت اقتضاء لا نصا . [ ص: 155 ]

                                                      الثالثة : اختلفوا في أن النكرة في سياق النفي ، هل عمت لذاتها أو لنفي المشترك فيها ؟ فقال أصحابنا ، بالأول ، وهو أن اللفظ وضع لسلب كل فرد فرد من أفراد الكلية بطريق المطابقة ، وأن سلب الكلي حصل بطريق اللزوم لنفي الكلية .

                                                      وقال الحنفية : إنما حصل العموم لأن النفي فيه لنفي الحقيقة الكلية التي هي مفهوم الرجل ، ويلزم من نفيه نفي كل فرد لأنه لو ثبت فرد لما كانت حقيقة الرجل منفية لاستلزام ذلك الفرد الحقيقة الكلية ، فإن نفي المشترك الكلي يلزم منه نفي كل فرد فرد ، ونفي الأعم يلزم منه نفي الأخص ، فحصلت السالبة الكلية بطريق اللزوم ، لا لأن اللفظ موضوع في اللغة للسالبة الكلية ، وحينئذ فقولنا : النكرة في سياق النفي للعموم ، لا بمعنى أن النفي رفع للأفراد ; بل رفع الحقيقة ، وحقيقته أن النكرة المنفية مستلزمة للعموم ، والقول الأول أظهر ، لأن المتكلم إنما يقصد بنفيه نفي كل رجل رجل لا نفي المشترك . فإن قيل : دلالة الالتزام لازمة على كلا القولين ، فإن نفي المشترك لازم لنفي كل فرد فرد ، وهو عند الحنفية بطريق المطابقة ، ونفي كل فرد فرد لازم له ، قلنا : لكن نفي المشترك الكلي غير مقصود بالأصالة بخلاف نفي كل فرد فرد ، فجعله مدلولا بالمطابقة أولى من جعل ذلك للماهية الكلية ، والمختار في هذه المسألة التفصيل بين النكرة المبنية على الفتح فباللزوم وبين غيرها فبالوضع .

                                                      وزعم بعضهم أنه لا يترتب على هذا الخلاف فائدة ، وليس كذلك ; بل يتفرع على هذا الخلاف أعني نفي الكلية أو الكلي جواز التخصيص بالنية [ ص: 156 ] فيما إذا وقع الفعل المتعدي جوابا لقسم أو شرطا ، نحو والله لا أكلت ، أو إن أكلت فعبدي حر ، ونوى مأكولا ، فعندنا يقبل التخصيص ، لأنه عام قطعيا فتؤثر النية في بعض أفراده ، وقال أبو حنيفة : لا يقبل ; بل يحنث بأكل كل مأكول بناء على أنه نفي للكلي وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى .

                                                      وقال الصفي الهندي : المراد بقولنا : النكرة في سياق النفي تعم ، أنها تفيد عموم النفي ، لا نفي العموم الذي قد يكون بالثبوت في البعض ، وقد يسلم لزومه من نفي النكرة ، لكن غايته أن ذلك بواسطة نفي الماهية ، وهو غير قادح في مقصودنا ; لأن المفهوم الأول يحقق بطريقين :

                                                      أحدهما : نفي ما ليس بعام ، لكن يلزم منه عموم النفي كما هو في نفي الماهية .

                                                      وثانيهما : بنفي كل واحد واحد من أفراد ما هو عام ، ومتى تحقق الخاص تحقق العام .

                                                      الرابعة : استثنى من كون النكرة في سياق النفي للعموم سلب الحكم عن العموم ، كقولنا : ما كل عدد زوجا ، فإن هذا ليس من باب عموم السلب ، أي ليس حكما بالسلب عن كل فرد ، وإلا لم يكن في العدد زوج ، وذلك باطل ، بل المقصود به إبطال قول من قال : إن كل عدد زوج ، فأبطل السامع ما ادعاه من العموم ، وهكذا استثناه السهروردي في " التنقيحات " ، والقرافي وغيرهما .

                                                      الخامسة : قال أبو حيان في آخر جمع التكسير من " شرح التسهيل " : ما ذكره النحاة والأصوليون من أن النكرة في سياق النفي تعم ، ليس عندي على إطلاقه ، فإنا نفرق بين : ما قام كل رجل .

                                                      وما قام رجل .

                                                      والنفي عندي مبني على الإثبات ، فإن كان الإثبات عاما كان النفي عاما ، [ ص: 157 ] وإن كان الإثبات خاصا بمطلق كان النفي لذلك المطلق ، لكن يلزم من انتفاء الحكم عن المطلق انتفاؤه عن كل فرد فرد من أفراد المطلق ، فإذا قلت : قام كل رجل ، فهذا إثبات لقيام كل رجل ، فإذا نفيت فقلت : ما قام كل رجل ، انتفى القيام عن كل فرد فرد من الرجال . وإذا قلت : قام رجل ، فيه إثبات قيام لمطلق رجل . فإذا قلت : ما قام رجل ، نفيت القيام . عن مطلق رجل ، هذه دلالة هذا اللفظ ، لكن يلزم من حيث نفي القيام عن مطلق رجل أن لا يوجد في صورة ما من صور المطلق ، فمعنى العموم لازم له ; لا أن اللفظ وضع للعموم ، وهذا لفظه .

                                                      ونازعه الشيخ تاج الدين التبريزي - رحمه الله - وقال : ليس هذا الحكم على ما ذكر ، فإن قوله : ما قام كل رجل ، سلب القيام عن كل رجل ، ولا يلزم السلب عن كل واحد واحد إذا سلب الجزئي لا يستلزم الكلي ، نعم يكون سلب القيام عن كل واحد واحد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية