الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 376 ] 64 - باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام في { صلاته على الجهنية التي رجمها بإقرارها عنده بالزنا ، وفي تركه الصلاة على ماعز الذي رجمه بإقراره عنده }

427 - حدثنا مالك بن يحيى أبو غسان الهمداني ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين : { أن امرأة من جهينة أتت النبي عليه السلام وهي حبلى من الزنا فقالت : يا رسول الله ، إني أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا النبي عليه السلام وليها فقال له : أحسن إليها ، فإذا وضعت حملها فائتني بها ، ففعل فأمر بها النبي عليه السلام فشدت عليها ثيابها ، وأمر بها فرجمت ، ثم صلى عليها فقال له علي : تصلي عليها وقد زنت ؟ فقال عليه السلام : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى } .

[ ص: 377 ]

428 - حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا إسماعيل بن مسعود ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا هشام ، عن يحيى مثله ، غير أنه قال مكان " فقال له علي " : " فقال له عمر " رضي الله عنهما .

429 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهاجر ، عن عمران ... فذكر مثله ، غير أنه قال مكان ما في الحديث الأول " فقال له علي " : " فقال له عمر " .

430 - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، حدثنا الأوزاعي ، ثم ذكر مثل حديث ابن عبد الحكم في إسناده ومتنه سواء .

ففيما روينا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المرجومة في الزنا :

431 - حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا محمد بن يحيى النيسابوري ، ونوح بن حبيب القومسي ، قالا : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، [ ص: 378 ] عن جابر : { أن رجلا من أسلم جاء النبي عليه السلام فاعترف بالزنا فأعرض عنه ، ثم اعترف فأعرض عنه ، حتى شهد على نفسه أربع مرات . فقال النبي عليه السلام : أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : أحصنت ؟ قال : نعم ، فأمر به النبي عليه السلام فرجم ، فلما أذلقته الحجارة فر ، فأدرك فرجم حتى مات . فقال له النبي عليه السلام خيرا ، ولم يصل عليه } .

ففي هذا تركه الصلاة على هذا المرجوم في الزنا وهو ماعز بن مالك ، فتأملنا جميع ما روينا في كل واحد من هذين المرجومين في الزنا في صلاة رسول الله عليه السلام على من صلى عليه منهما ، وفي تركه الصلاة على من ترك الصلاة عليه منهما ، لأي معنى كان ذلك منه .

فوجدنا المرأة التي رجمها لإقرارها عنده بالزنا كان منها لله تعالى في إقرارها عنده بذلك جود منها بنفسها له ، وبذل منها نفسها لإقامة الواجب في ذلك الزنا عليها ، وفي صبرها على ذلك حتى أخذ منها ، وكان ذلك منها موجبا لحمدها فصلى عليها ، إذ كان من سنته عليه السلام صلاته على المحمودين من أمته .

[ ص: 379 ] ووجدنا ما كان من الرجل الذي كان أقر عنده بالزنا بخلاف ذلك ؛ لأنه لم يجئ إليه باذلا لنفسه في رجمه إياه الذي يكون به موته ، وإنما جاءه ؛ لأنه يرى أنه لا يفعل ذلك به ، وسنأتي بما روي في ذلك فيما بعد من كتابنا إن شاء الله ، ثم كان منه بعد ذلك - قبل أن يؤتى على نفسه - هربه من إقامة عقوبة الله عليه التي أوجبها ما أقر به على نفسه عليه ، فكان في ذلك موقع الريب في أمره ؛ لأنه قد يحتمل أن يكون ذلك الهرب كان منه لرجوع كان عما أقر به ، أو فرارا من إقامة العقوبة التي قد لزمته عليه ، وكان مذموما في كل واحدة من هاتين الحالتين ، فترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لذلك ؛ لأن من سنته أن لا يصلي على المذمومين من أمته ، كما لم يصل على قاتل نفسه ، وإن كان مسلما ، وكما لم يصل على الغال من الغزاة معه بخيبر ، وقد ذكرنا ما روي في ذلك بأسانيده فيما تقدم منا في كتابنا هذا في باب ما روي عنه في أمرعبد الله بن أبي بن سلول من صلاته عليه أو من ترك صلاته عليه ، فمما روي في أمر المرجوم الذي قد ذكرنا من هربه عن استتمام الرجم وما كان من رسول الله عليه السلام من القول عندما بلغه ذلك منه .

432 - ما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا إسماعيل بن سالم الصائغ ، حدثنا أبو معاوية ، أخبرني النعمان بن ثابت ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : { جاء ماعز الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس فأقر بالزنا فرده أربع مرات ، ثم أمر برجمه فأقاموه في مكان قليل الحجارة ، فلما أصابته الحجارة جزع فخرج يشتد حتى أتى الحرة ، فثبت لهم فيها ، فرموه بجلاميدها ، حتى سكت فقالوا : يا رسول [ ص: 380 ] الله ماعز حين أصابته الحجارة جزع فخرج يشتد فقال : هلا خليتم سبيله } .

433 - وما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : { قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن ماعزا حين وجد مس الموت والحجارة فر ، قال : أفلا تركتموه ؟ } .

434 - وما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم ، عن أبي الهيثم { بن نصر بن دهر الأسلمي ، عن أبيه قال : كنت فيمن رجم ماعزا فلما وجد مس الحجارة جزع جزعا شديدا ، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال : فهلا تركتموه ؟ } قال ابن إسحاق : فذكرت ذلك من حديثه حين سمعته يقول : [ ص: 381 ] فهلا تركتموه لعاصم بن عمر بن قتادة فقال : حدثني حسن بن محمد بن علي قال : حدثني ذلك من قول رسول الله عليه السلام : { هلا تركتموه لماعز من ست من رجال أسلم ، وما أتهم القوم ، ولم أعرف الحديث ، فجئت جابرا فقلت : إن رجالا من أسلم يحدثون أن رسول الله عليه السلام قال لهم حين ذكروا جزع ماعز من الحجارة هلا تركتموه ، ما أتهم القوم ولا أعرف الحديث فقال : يا ابن أخي ، أنا أعلم هذا الحديث كنت فيمن رجم الرجل فرجمناه ، فوجد مس الحجارة فصرخ بنا يا قوم ، ردوني إلى رسول الله عليه السلام فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي ، وأخبروني أن رسول الله عليه السلام غير قاتلي ، فلم ننزع عنه حتى قتلناه ، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بما قال : قال فهلا تركتم الرجل وجئتموني به ليستثبت رسول الله عليه السلام } منه ، فأما لتركه حدا فلا ، فعرفت وجه الحديث .

435 - وما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا محمد بن عبد الله المبارك ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن يزيد بن نعيم ، عن أبيه : { جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني زنيت فأقم علي كتاب الله حتى أتى أربع مرار . قال : اذهبوا به فارجموه ، فلما مسته الحجارة جمز ، فاشتد فخرج عبد الله من باديته فرماه بوظيف حمار فصرعه فرماه الناس حتى قتلوه [ ص: 382 ] فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فراره فقال : هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه } .

وفيما روينا في هذا الفصل قول المرجوم للناس : إن قومي قتلوني ، وغروني من نفسي ، وأخبروني أن رسول الله عليه السلام غير قاتلي ، فدل ذلك أن مجيئه كان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقراره عنده بما أقر به ليس لأنه يرجمه الرجم الذي يكون فيه قتله ، ولكن لما سوى ذلك من نزول قرآن فيه بمعنى عسى أن لا يكون معه عقوبة له ، فلم يكن في ذلك كالجهنية المقرة عند رسول الله عليه السلام بالزنا على نفسها ، وطلبها منه إقامة العقوبة عليها ، وتردادها إليه لذلك في حال حملها ، وبعد وضعها حملها ، وبعد فطامها ولدها ، في ذلك ما قد دل على علمها كان بالعقوبة ؛ لأن ذلك لا يخفى على مثلها في مثل تلك المدة ، ولا يخفيه عليها من يراها تطلب إقامة الحد عليها فيما كان منها يغفر الله لها .

وفي ذلك ما قد دل على المعنى الذي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة على ذلك المرجوم .

فإن قال قائل : ففي حديث جابر من رواية أبي سلمة عنه : { أن رسول الله عليه السلام لما بلغه ما كان منه قال له خيرا } . ففي ذلك ما قد دل على أنه كان عنده محمودا ، ولم يكن مذموما .

قيل له : في حديث جابر ما قد ذكرت ، وقد روي عن أبي سعيد الخدري فيما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك في أمره خلاف ذلك .

[ ص: 383 ]

436 - كما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا عبد الرحمن بن خالد ، يعني الرقي القطان ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : { جاء ماعز إلى النبي عليه السلام فاعترف بالزنا أربع مرات ، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أمر به فرجم فرجمناه بالخزف والجندل والعظام ، وما حفرنا له ، وما أوثقناه ، فسبقنا إلى الحرة فاتبعناه ، فقام لنا فرميناه حتى سكت فما استغفر له النبي عليه السلام ، وما سبه } .

ففي هذا الحديث خلاف ما في حديث جابر ، ثم تأملنا حديث جابر فوجدنا عن ابن بريدة ، عن النبي عليه السلام ما قد كشف المعنى لنا فيه .

437 - كما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرني إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني ، حدثنا يحيى بن يعلى بن الحارث ، حدثنا أبي ، حدثنا غيلان بن جامع ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه : { أنهم لبثوا بعد رمي ماعز يومين أو ثلاثة ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهم جلوس ، فسلم ثم جلس . فقال : استغفروا لماعز بن مالك . فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك . فقال النبي عليه [ ص: 384 ] السلام ، لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتها } .

فوقفنا بذلك على أنه قد كان ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه ، ومن هذا القول المدة المذكورة في هذا الحديث ، ودل ذلك على أن الحمد لحقه من النبي عليه السلام بعد ذهاب وقت الصلاة عليه ، وإن كان غيره قد صلى عليه قبل ذلك ، ويحتمل أن يكون ذلك الحمد له لمعنى علمه النبي صلى الله عليه وسلم حدث في أمره من رحمة الله تعالى لحقته إما بوحي جاءه ، وإما برؤيا رآها فيه ؟ وقد وجدنا من ذلك شيئا في حديث قد روي عن أبي هريرة .

438 - وهو ما قد حدثنا الحسين بن نصر قال : سمعت يزيد بن هارون يقول : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن عبد الرحمن بن هضاض ، عن أبي هريرة : { أن ماعز بن مالك زنى فأتى هزالا فأقر له أنه زنى ، فقال له هزال : ائت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قبل أن [ ص: 385 ] ينزل فيك قرآن ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني قد زنيت فأعرض عنه حتى قال ذلك أربع مرار ، ثم أمر به أن يرجم فلجأ إلى شجرة فقتل فقال رجل لصاحبه : هذا قد قتل كما يقتل الكلب ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بحمار منتفخ ، فقال لهما : انهشا من هذا . قالا : يا رسول الله ، لا نستطيع جيفة منتنة ، فقال : ما أصبتما من أخيكما أنتن ؛ إنه يهش في أنهار الجنة ، ثم قال : ويحك يا هزال ، ألا سترته ، ويحك يا هزال ألا سترته } .

439 - وكما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن حاتم بن نعيم ، أخبرنا حبان بن موسى ، أخبرنا عبد الله يعني : ابن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن عبد الرحمن بن هضاض ، عن أبي هريرة ، ثم ذكر مثله غير أنه قال : { مكان يهش في أنهار الجنة ، إنه لينغمس في أنهار الجنة } .

فدل ما ذكرناه في حديث بريدة أن هذا القول كان من النبي عليه السلام لم يكن عقيبا لرجمه ماعزا ، وإنما كانت بينهما مدة وقف بها رسول الله عليه السلام من حقيقة ما صار إليه عند الله تعالى ، مما لم يكن واقفا عليه قبل ذلك ولا عالما به حتى أعلمه الله إياه ، وكان ما في حديث جابر فقال النبي عليه السلام له خيرا كان مؤخرا عن غير الصلاة عليه .

فأما في حديث ابن هضاض الذي رويناه مما حكي فيه من قول [ ص: 386 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجلين ما قال موصولا بانصرافهم من رجمه ، فذلك مستحيل ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحضر رجمه ، وإنما جاءه راجموه فأخبروه بما كان منهم ومنه ، ثم كان منه بعد ذلك هذا القول بعد وقوفه على حقيقة ما صار إليه عند ربه تعالى من عفوه عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية