الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 316 ] ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين

                                                          * * *

                                                          تبين في الآيات السابقة أن بني إسرائيل كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كانوا يستفتحون به على المشركين وأنهم قرروا في ذاتهم ألا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم ، فلا يؤمنون بالقرآن وإن جاء مصدقا لما معهم ، وذلك الكفر أكبر العناد ، وفي هذه الآيات الكريمات يبين الله تعالى أن العناد فيهم منذ أرسل موسى إليهم ، لقد أتى لهم ببينات حسية قاطعة في الدلالة على أن موسى أرسله الله تعالى لإنقاذهم .

                                                          ولقد أوتي عيسى بينات كثيرة وكفروا به وحاولوا قتله ، ولم يمكنهم الله تعالى منه ، فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، وموسى عليه السلام أتى لهم بمعجزات حسية بلغت تسعا ، فقد قال تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ومنها العصا التي أبطلت سحر الساحرين ، والتي ضرب بها البحر ، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، والتي ضرب بها الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، قد علم كل أناس مشربهم ، ومنها ما ظهر بين أيديهم مما جرى لفرعون وقومه ، وقد قال الله تعالى في سورة الأعراف : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن [ ص: 317 ] كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ولما خرجوا إلى سيناء ظللتهم السحاب من هجيرها ، وأمدهم الله تعالى بالمن والسلوى .

                                                          جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالبينات القاهرة الظاهرة المحسوسات ، ومع وضوحها وظهورها اتخذتم أي اتخذوه معبودا وهو مصنوع بين أيديهم وتحت أبصارهم ، ولذا قال تعالى : ولقد جاءكم موسى بالبينات وقد أشرنا إلى بعضها أو جلها ، ثم قال تعالى مخاطبا الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم في تفكيرهم وجحودهم وعنادهم امتداد للسابقين يحذون حذوهم ، وما يعملونه صورة مما عملوا والباعث واحد ، ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون والعطف بثم للمفارقة الواجبة بين ما تقتضيه الآيات الحسية الظاهرة من إيمان واتخاذهم العجل معبودا ، وهو لا يضر ولا ينفع ، ولا عذر ولا مبرر إلا أن يكون التقليد لفرعون وآله وقومه الذين عبدوا العجل وكانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم لأهوائهم وشهواتهم .

                                                          وقد قال تعالى : وأنتم ظالمون ولم يقل سبحانه وتعالى : وأنتم كافرون ; لأنه كفر يتضمن أشد الظلم وأفحشه ، فقد ظلموا أنفسهم بأن أعطوا قوة الحق ، فأبوا إلا أن يستضعفوا ويذلوا لمن أذلوهم ، وظلموا الحق وظلموا من أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم فهو كفر يتضمن ظلما ، وكما قال تعالى في آية أخرى : ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

                                                          هذه حالهم مع موسى الذي دفعه الله تعالى لإنقاذهم مع ما جاءهم من البينات ، فكيف يمكن أن ينتزع الضلال من قلوبهم بالقرآن الكريم يا محمد ، فلا تأس على القوم الفاسقين .

                                                          [ ص: 318 ] إن اليهود لا يؤمنون بشيء مهما تكن قوة أدلته ومهما تكن قوة الدعوة إليه . لقد رأينا الآيات الكثيرة التي ذكر الله تعالى أنها بلغت تسعا ، وكلها حسي قاهر ، وفيه نعمة النجاة والرعاية الكاملة حتى ظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ثم بين بعد ذلك قوة الدعوة إلى الحق فقال تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا دعوة إلى الحق الذي قامت أدلته بميثاق أخذه الله تعالى ، وأخذه وقد رفع الجبل فوقهم كأنه ظلة أظلتهم وطالبهم الله تعالى على لسان كليمه أن يأخذوه بقوة أي بجد ، ولا ينحرفوا عنه ، وأن يسمعوا إليه ، ولا يخالفوه .

                                                          اجتمع لهدايتهم قوتان قوة الدليل في الآيات التسع ، وقوة الدعوة في الميثاق الذي أخذ عليهم في حال رفع الجبل فوقهم ودعوتهم إلى سماع الحق ، فهل أجابوا ؟

                                                          قالوا سمعنا وعصينا هذا ما جاء به القرآن نصا في إجابتهم . وإن ما حكى الله تعالى عنهم من أنهم قالوا : سمعنا تفسر على ظاهرها فإنه كان النداء قويا والجبل مرتفع عليهم ، خذوا ما آتيناكم بقوة أي ما شرعناه لكم من شرائع بجد وعزم ، واسمعوا فإنه لا بد أن يكون الجواب سمعنا أما ما حكاه سبحانه من أنهم قالوا : وعصينا فيصح أن تخرج على أنهم قالوها بألسنتهم ، وذلك بعيد يتنافى مع قوة الميثاق وتأكده ومع طلب الأخذ بقوة أي بجد وعزم على التنفيذ ، ولذا نستبعد ذلك الاحتمال لقيام القرائن ضده ، وما نحسب أنهم وصلوا إلى هذه الحال أن ينكثوا بالعهد وقت توثيقه وأن يجاهروا بعصيانه ، والعهد بينهم وبين المنقذ لهم ، والعهد قريب ، ولذلك قرر المفسرون أن كلمة عصينا مجاز عن أفعالهم ، أي أن عصيانهم كان بلسان الفعال لا بلسان المقال ، فهم قالوا سمعنا بالقول وقالوا عصينا بأفعالهم .

                                                          [ ص: 319 ] ويصح أن نقول : إن عصينا القلبية كانت مقارنة لـ سمعنا ، أي أنهم قالوا سمعنا ، وقلوبهم جافية معرضة كأنها تنطق بحالهم ، وهو عصينا فكأنهم سمعوا ، وهم على نية العصيان فقلوبهم جافية عن الاتعاظ بما يسمعون .

                                                          ولقد كان أوضح المظاهر التي دلت على عصيانهم ، وأنهم سمعوا وعصوا هو عبادتهم العجل ، أو بالتعبير القرآني المنزه الحكيم اتخاذهم ، ولذلك ذكره بعد تسجيل العصيان فقال : وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم بعض علماء اللغة يقولون إن المعنى على حذف مضاف تقديره حب العجل ، وذلك مجاز مشهور يسمى مجاز الحذف ، فذكر القلوب ، والقلوب لا تشرب العجول قالوا إنه مجاز بالحذف ، والقلوب تنكت فيها المفاسد ، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تعرض الفتن على القلوب عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء " .

                                                          وبعض المتفقهين في اللغة قالوا : لا حاجة إلى تقدير محذوف ; لأن أشرب متعلق بالعجل مباشرة ، لأن تعلق الإشراب به ليس مقصورا على المحبة ، بل إنه يتجاوزها إلى العبادة ، وإلى أنه تكون صورته في قلوبهم لا تفترق عنها ، ويكون من قبيل أشرب الثوب الصبغة ، أي خالطت أجزاءه ، وتغلغلت فيه ، فالعجل تغلغل في قلوبهم فألفوه وصار جزءا من تفكيرهم ، كما صارت الصبغة جزءا من الثوب ، لا تنفصل عنه ، وهذا نوع من الاستعارة ، فاستعيرت كلمة الإشراب لتغلغل ذكره في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها .

                                                          وكلمة في قلوبهم قرينة الاستعارة ، وأشرب للبناء للمجهول لكثرة الأسباب الباطلة التي أشربته قلوبهم ، فالشيطان زينه لهم ، وسول لهم عبادته ، وعشرتهم للمصريين الذين كانوا يقدسونه ، والعشرة المستمرة لهم مع مظالمهم ، وضلال نفوسهم كل هذا سهل سريان عبادة العجل إليهم ; ولذلك قال بكفرهم ، أي بسبب كفرهم المستكن في نفوسهم ، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقولهم : قل بئسما [ ص: 320 ] يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم هم الذين واجهوه ( النبي - صلى الله عليه وسلم ) بقولهم : قالوا نؤمن بما أنـزل علينا وهذا القرآن الكريم بين ما يدل على أنهم لا يؤمنون بشيء حتى تركوا ما يدعوهم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بما عندهم ، وهذه صورة من الإيمان بما عندهم بئسما دالة على ذم ما يأمرهم به إيمانهم الباطل ، وهذا تهكم شديد على حالهم وعلى ما يتصورونه إيمانا بما عندك ، كقوله تعالى حكاية عن قول قوم شعيب له : أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وقوله تعالى : إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم في الماضي والحاضر مؤمنين ، وبيان أن إيمانهم موضع شك بل لا إيمان .

                                                          * * * 8

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية