الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به وهو الذي يسمى سببا وكيفية نسبة الحكم إليه وفيه أربعة فصول :

              الفصل الأول في الأسباب

              اعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الله - تعالى - في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي ، أظهر الله - سبحانه - خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا لأحكامه وجعلها موجبة ومقتضية للأحكام على مثال اقتضاء العلة الحسية معلولها ، ونعني بالأسباب ههنا أنها هي التي أضاف الأحكام إليها ، كقوله - تعالى - : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقوله صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } .

              وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات كالصلاة والصوم والزكاة ، فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره فجدير بأن يسمى سببا ; أما ما لا يتكرر كالإسلام والحج فيمكن أن يقال : ذلك معلوم بقوله - تعالى - : { ولله على الناس حج البيت } وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم [ ص: 75 ] بالعمومات ، فلا حاجة إلى إضافتها إلى سبب .

              ويمكن أن يقال سبب وجوب الإيمان والمعرفة الأدلة المنصوبة ، وسبب وجوب الحج البيت دون الاستطاعة ; ولما كان البيت واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة ، والإيمان معرفة فإذا حصلت دامت والأمر فيه قريب . هذا قسم العبادات ، وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات فلا تخفى أسبابها .

              وأما قسم المعاملات فلحل الأموال والأبضاع ، وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره ، وهذا ظاهر وإنما المقصود أن نصب الأسباب أسبابا للأحكام أيضا حكم من الشرع ، فلله تعالى في الزاني حكمان أحدهما : وجوب الحد عليه ، والثاني : نصب الزنا سببا للوجوب في حقه ; لأن الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه بخلاف العلل العقلية ، وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا ، فهو نوع من الحكم فلذلك أوردناه في هذا القطب ولذلك يجوز تعليله ونقول : نصب الزنا علة للرجم والسرقة علة للقطع لكذا وكذا ، فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا ، والنباش في معنى السارق ; وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس .

              واعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء ، وأصل اشتقاقه من الطريق ومن الحبل الذي به ينزح الماء من البئر ، وحده ما يحصل الشيء عنده لا به ، فإن الوصول بالسير لا بالطريق ولكن لا بد من الطريق ، ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل ولكن لا بد من الحبل ، فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع وأطلقوه على أربعة أوجه : الوجه الأول : وهو أقربها إلى المستعار منه : ما يطلق في مقابلة المباشرة ، إذ يقال : إن حافر البئر مع المردي فيه صاحب سبب ، والمردي صاحب علة ، فإن الهلاك بالتردية لكن عند وجود البئر فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا .

              الثاني : تسميتهم الرمي سببا للقتل من حيث إنه سبب للعلة ، وهو على التحقيق علة العلة لكن لما حصل الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به . الثالث : تسميتهم ذات العلة مع تخلف وصفها سببا ، كقولهم : الكفارة تجب باليمين دون الحنث ، فاليمين هو السبب . وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب . ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه ، ويقابلون هذا بالمحل والشرط فيقولون ملك النصاب سبب والحول شرط .

              الرابع : تسميتهم الموجب سببا فيكون السبب بمعنى العلة ، وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان ، فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به ; ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية ; لأنها لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله - تعالى - ، ولنصبه هذه الأسباب علامات لإظهار الحكم ، فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة فشابهت ما يحصل الحكم عنده .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية