الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) الجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين ; وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالبا ، أو لأنها تكتسب ، يقال : امرأة لا جارح لها ; أي : لا كاسب . ومنه : ( ويعلم ما جرحتم بالنهار ) أي : ما كسبتم . ويقال : جرح واجترح بمعنى اكتسب . المكلب ، بالتشديد : معلم الكلاب ومضريها على الصيد ، وبالتخفيف صاحب كلاب . وقال الزجاج : رجل مكلب ومكلب وكلاب : صاحب كلاب . الغسل في اللغة : إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها قاله بعضهم ، وقال آخرون : هو إمرار الماء على الموضع ، ومن ذلك قول بعض العرب :

فيـا حسنهـا إذ يغسـل الـدمع كحلهـا

. المرفق : المفصل بين المعصم والعضد ، وفتح الميم وكسر الفاء أشهر . الرجل : معروفة ، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة . والكعب : هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل . الحرج : الضيق ، والحرج الناقة الضامر ، والحرج النعش .

( يسألونك ماذا أحل لهم ) سبب نزولها فيما قال عكرمة ومحمد بن كعب : سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة : ماذا يحل لنا من هذه الكلاب وكان إذ ذاك أمر الرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل ، عليه السلام : " إنا لا ندخل بيتا فيه كلب " وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع . قال : " أمرني رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بقتل الكلاب " ، فقال الناس : يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم ، الآيات . وقال ابن جبير : نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا : يا رسول الله ، إنا نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن كلاب آل [ ص: 428 ] درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمر والظباء والضب ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها فنزلت . وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤال عنه ، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم ، فأجيبوا بما سألوا عنه ، وبشيء عام في المطعم . ويحتمل أن يكون ( ماذا ) كلها استفهاما ، والجملة خبر . ويحتمل أن يكون ( ما ) استفهاما ، و ( ذا ) خبرا ; أي : ما الذي أحل لهم ؟ والجملة إذ ذاك صلة . والظاهر أن المعنى : ماذا أحل لهم من المطاعم ، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائث ، سألوا عما يحل لهم ; ولما كان ( يسألونك ) الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب . ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا ، كما تقول : أقسم زيد ليضربن ولأضربن ، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها . وقال الزمخشري : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم ، كأنه قيل : يقولون : ماذا أحل لهم . انتهى . ولا يحتاج إلى ما ذكر ، لأنه من باب التعليق ، كقوله : سلهم أيهم بذلك زعيم ، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لـ ( يسألونك ) . ونصوا على أن فعل السؤال يعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنه سبب للعلم ، فكما تعلق العلم فكذلك سببه . وقال أبو عبد الله الرازي : لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحل لهم ، ومعلوم أن ذلك باطل ، لأنهم لا يقولون ذلك ، وإنما يقولون : ماذا أحل لنا . بل الصحيح : أن هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم ، بل هو بيان كيفية الواقعة . انتهى .

( قل أحل لكم الطيبات ) لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، بغير إذن من الله تعالى ، قرر هنا أن الذي أحل هي الطيبات . ويقوي قول الشافعي : أن المعنى المستلذات ، ويضعف أن المعنى : قل أحل لكم المحللات ، ويدل عليه قوله : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) كالخنافس والوزغ وغيرهما . والطيب في لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة . والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة ، فإن بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات . وهذه الجملة جاءت فعلية ، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا على اللفظ ، لأن الجملة السابقة وهي : ماذا أحل لهم اسمية ، وهذه فعلية .

( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) ظاهر علمتم يخالف ظاهر استئناف مكلبين ، فغلب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا : الجوارح هي الكلاب خاصة . وكان ابن عمر يقول : إنما يصطاد بالكلاب . وقال هو وأبو جعفر : ما صيد بغيرها [ ص: 429 ] من باز وصقر ونحوهما ، فلا يحل إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه . وجوز قوم البزاة ، فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم . وغلب الجمهور ظاهر وما علمتم ، وقالوا : معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين ، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم . وأقصى غاية التعليم أن يشلى فيستشلي ، ويدعى فيجيب ، ويزجر بعد الظفر فينزجر ، ويمتنع من أن يأكل من الصيد . وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله : علمتم ، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمرا بالتعليم حاذقا فيه موصوفا به ، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب ، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه .

قال أبو سليمان الدمشقي : وإنما قيل مكلبين ، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب . انتهى . واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به . قال الزمخشري : أو لأن السبع يسمى كلبا ، ومنه قوله ، عليه السلام : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ؛ فأكله الأسد ; ولا يصح هذا الاشتقاق ، لأن كون الأسد كلبا ، هو وصف فيه ، والتكليب من صفة المعلم ، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم . وظاهر قوله : وما علمتم ، أنه خطاب للمؤمنين . فلو كان المعلم يهوديا أو نصرانيا فكره الصيد به الحسن ، أو مجوسيا فكره الصيد به جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي ، والثوري وإسحاق . وأجاز أكل صيد كلابهم : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي إذا كان الصائد مسلما . قالوا : وذلك مثل شفرته . والجمهور : على جواز ما صاد الكتابي . وقال مالك : لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته . وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله ، عطاء ، وابن جبير ، والنخعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والليث ، والشافعي . وقال أبو ثور : فيه قول أنهم أهل كتاب ، وأن صيدهم جائز .

وماعلمتم : موضع " ما " رفع على أنه معطوف على الطيبات ، ويكون حذف مضاف ; أي : وصيد ما علمتم ، وقدره بعضهم : واتخاذ ما علمتم . أو رفع على الابتداء ، و ( ما ) شرطية ، والجواب : فكلوا . وهذا أجود ، لأنه لا إضمار فيه . وقرأ ابن عباس وابن الحنفية : ( وما علمتم ) مبنيا للمفعول ، أي : من أمر الجوارح والصيد بها . وقرأ : ( مكلبين ) من أكلب ، وفعل وأفعل قد يشتركان . والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح ، وأنه يجوز أكل صيده ، وبه قال الجمهور . ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر : أنه لا يجوز أكل صيده ، لأنه مأمور بقتله ، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده . وقال أحمد : لا أعلم أحدا رخص فيه إذا كان بهيما ، وبه قال : ابن راهويه . وكره الصيد به : الحسن ، وقتادة ، والنخعي . وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب ، أنه إذا أمر ائتمر ، وإذا زجر انزجر ، وزاد قوم شرطا آخر وهو أن لا يأكل مما صاد ، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور . وقال ربيعة : ما أجاب منها فهو المعلم . وقال ابن حبيب : لا يشترط فيها إلا شرط واحد : وهو أنه إذا أمرها أطاعت ، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها . وظاهر قوله : وما علمتم ، حصول التعليم من غير اعتبار عدد ، وكان أبو حنيفة لا يحد في ذلك عددا . وقال أصحابنا : إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم . وقال غيرهم : إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلما .

( تعلمونهن مما علمكم الله ) أي : إن تعليمكم إياهن ليس من قبل أنفسكم ، إنما هو من العلم الذي علمكم الله ، وهو أن جعل لكم روية وفكرا بحيث قبلتم العلم . فكذلك الجوارح يصير لها إدراك ما وشعور ، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار . وفي قوله : مما علمكم الله ، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه ، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان . ومفعول ( علم ) و ( تعلمونهن ) الثاني محذوف ; تقديره : وما علمتموه طلب الصيد لكم ، لا لأنفسهن تعلمونهن ذلك ، وفي ذلك دلالة على أن [ ص: 430 ] صيد ما لم يعلم حرام أكله ، لأن الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم . والدليل على ذلك الخطاب في ( عليكم ) في قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم ، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه . ومعنى مما علمكم الله ; أي : من الأدب الذي أدبكم به تعالى ، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه ، فإذا أمر فائتمر ، وإذا زجر فانزجر ، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى . وقال الزمخشري : مما علمكم الله من كلم التكليف ، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل . انتهى . والجملة من قوله : تعلمونهن ، حال ثانية . ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير : أن لا تكون " ما " من قوله : وما علمتم من الجوارح - شرطية ، إلا إن كانت اعتراضا بين الشرط وجزائه . وخطب الزمخشري هنا فقال : وفيه فائدة جليلة وهي أن كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من قبل أهله علما وأبحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل ، فكم من آخذ من غير متقن فقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله .

فكلوا مما أمسكن عليكم . هذا أمر إباحة . و ( من ) هنا للتبعيض ; والمعنى : كلوا من الصيد الذي أمسكن عليكم . ومن ذهب إلى أن ( من ) زائدة ، فقوله ضعيف ، وظاهره أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل الجارح منه أو لم يأكل ، وبه قال : سعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي ، وأبو هريرة ، وابن عمر . وهو قول مالك وجميع أصحابه . ولو بقيت بضعة بعد أكله جاز أكلها ومن حجتهم : أن قتله هي ذكاته ، فلا يحرم ما ذكى . وقال أبو هريرة أيضا وابن جبير ، وعطاء ، وقتادة ، وعكرمة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : لا يؤكل ما بقي من أكل الكلب ولا غيره ، لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على مرسله . ولأن في حديثعدي : وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ; وعن علي : إذا أكل البازي فلا تأكل ، وفرق قوم بين ما أكل منه الكلب فمنعوا من أكله ، وبين ما أكل منه البازي ، فرخصوا في أكله ، منهم : ابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبو جعفر محمد بن علي الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، لأن الكلب إذا ضرب انتهى ، والبازي لا يضرب . والظاهر أن الجارح إذا شرب من الدم أكل الصيد ، وكره ذلك سفيان الثوري . والظاهر أنه إذا انفلت من صاحبه فصاد من غير إرسال أنه لا يجوز أكل ما صاد . وقال علي والأوزاعي : إن كان أخرجه صاحبه للصيد جاز أكل ما صاد . وممن منع من أكله إذا صاد من غير إرسال صاحبه : ربيعة ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور . والظاهر جواز أكل ما قتله الكلب بفمه من غير جرح لعموم مما أمسكن . وقال بعضهم : لا يجوز لأنه ميت .

( واذكروا اسم الله عليه ) الظاهر عود الضمير في ( عليه ) إلى المصدر المفهوم من قوله : فكلوا ; أي : على الأكل . وفي الحديث في صحيح مسلم " سم الله وكل مما يليك " وقيل : يعود على ما أمسكن ، على معنى : وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، وهذا فيه بعد . وقيل : على وما علمتم من الجوارح ; أي : سموا عليه عند إرساله ، لقوله : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل " واختلفوا في التسمية عند الإرسال أهي على الوجوب أو على الندب ، والمستحب أن يكون لفظها بسم الله والله أكبر . وقول من زعم : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وأن الأصل : فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم - قول مرغوب عنه لضعفه .

( واتقوا الله إن الله سريع الحساب ) لما تقدم ذكر ما حرم وأحل من المطاعم ، أمر بالتقوى ، فإن التقوى بها يمسك الإنسان عن الحرام . وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع [ ص: 431 ] الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه ، فهو وعيد بيوم القيامة ، وإن حسابه تعالى إياكم سريع إتيانه ، إذ يوم القيامة قريب . أو يراد بالحساب المجازاة ، فتوعد من لم يتق بمجازاة سريعة قريبة ، أو لكونه تعالى محيطا بكل شيء لا يحتاج في الحساب إلى مجادلة عد ، بل يحاسب الخلائق دفعة واحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية