الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16) وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين (18) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (21) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22) وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم (25)

                                                                                                                                                                                                                                      من مشهد المكابرة. وكان ميدانه السماء. إلى معرض الآيات الكونية مبدوءا بمشهد السماء، فمشهد الأرض،

                                                                                                                                                                                                                                      فمشهد الرياح اللواقح بالماء، فمشهد الحياة والموت، فمشهد البعث والحشر.. كل أولئك آيات يكابر فيها من لو فتح عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون. فلنعرضها مشهدا مشهدا كما هي في السياق:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد جعلنا في السماء بروجا. وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم، إلا من استرق السمع، فأتبعه شهاب مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه الخط الأول في اللوحة العريضة.. لوحة الكون العجيبة، التي تنطق بآيات القدرة المبدعة، وتشهد بالإعجاز أكثر مما يشهد نزول الملائكة; وتكشف عن دقة التنظيم والتقدير، كما تكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير.

                                                                                                                                                                                                                                      والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها. وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي [ ص: 2133 ] تتنقل فيها في مدارها. وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة، وشاهدة بالدقة، وشاهدة بالإبداع الجميل:

                                                                                                                                                                                                                                      وزيناها للناظرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي لفتة هنا إلى جمال الكون - وبخاصة تلك السماء - تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون. فليست الضخامة وحدها، وليست الدقة وحدها، إنما هو الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعا، وينشأ من تناسقها جميعا.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة، وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم، توصوص بنورها ثم يبدو كأنما تخبو، ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد.. ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم، والكون من حوله مهوم، كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد!.

                                                                                                                                                                                                                                      إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني، وعمق هذا الجمال في تكوينه، ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة:

                                                                                                                                                                                                                                      وزيناها للناظرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومع الزينة الحفظ والطهارة:

                                                                                                                                                                                                                                      وحفظناها من كل شيطان رجيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      لا ينالها ولا يدنسها، ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته. فالشيطان موكل بهذه الأرض وحدها، وبالغاوين من أبناء آدم فيها. أما السماء - وهي رمز للسمو والارتفاع - فهو مطرود عنها مطارد لا ينالها ولا يدنسها. إلا محاولة منه ترد كلما حاولها:

                                                                                                                                                                                                                                      إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟ .. كل هذا غيب من غيب الله، لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص. ولا جدوى في الخوض فيه؛ لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة، ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة. ثم لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة.

                                                                                                                                                                                                                                      فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان، وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ، وأن ما ترمز إليه من سمو وعلى مصون لا يناله دنس ولا رجس، ولا يخطر فيه شيطان، وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا ننسى جمال الحركة في المشهد في رسم البرج الثابت، والشيطان الصاعد، والشهاب المنقض، فهي من بدائع التصوير في هذا الكتاب الجميل.

                                                                                                                                                                                                                                      والخط الثاني في اللوحة العريضة الهائلة هو خط الأرض الممدودة أمام النظر، المبسوطة للخطو والسير، وما فيها من رواس، وما فيها من نبت وأرزاق للناس ولغيرهم من الأحياء:

                                                                                                                                                                                                                                      والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن ظل الضخامة واضح في السياق. فالإشارة في السماء إلى البروج الضخمة - تبدو ضخامتها حتى في جرس كلمة "بروج" وحتى الشهاب المتحرك وصف من قبل بأنه "مبين" .. والإشارة في الأرض إلى الرواسي - ويتجسم ثقلها في التعبير بقوله: وألقينا فيها رواسي . وإلى النبات موصوفا بأنه "موزون" وهي كلمة [ ص: 2134 ] ذات ثقل، وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير.. ويشترك في ظل التضخيم جمع "معايش" وتنكيرها، وكذلك ومن لستم له برازقين من كل ما في الأرض من أحياء على وجه الإجمال والإبهام. فكلها تخلع ظل الضخامة الذي يجلل المشهد المرسوم.

                                                                                                                                                                                                                                      والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس. فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو، وهذه الرواسي الملقاة على الأرض، تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون، ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض. وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها. وهي كثيرة شتى، يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الضخامة كما أسلفنا. جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم كذلك " من لستم له برازقين " . فهم يعيشون على أرزاق الله التي جعلها لهم في الأرض. وما أنتم إلا أمة من هذه الأمم التي لا تحصى. أمة لا ترزق سواها إنما الله يرزقها ويرزق سواها، ثم يتفضل عليها فيجعل لمنفعتها ومتاعها وخدمتها أمما أخرى تعيش من رزق الله، ولا تكلفها شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الأرزاق - ككل شيء - مقدرة في علم الله، تابعة لأمره ومشيئته، يصرفها حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها، وأجراها في الناس والأرزاق:

                                                                                                                                                                                                                                      وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم ..

                                                                                                                                                                                                                                      فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئا، إنما خزائن كل شيء - مصادره وموارده - عند الله. في علاه.

                                                                                                                                                                                                                                      ينزله على الخلق في عوالمهم "بقدر معلوم" فليس من شيء ينزل جزافا، وليس من شيء يتم اعتباطا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومدلول هذا النص المحكم: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة، وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه. ومدلول "خزائنه" يتجلى في صورة أقرب بعدما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي; وطبيعة تركيبها وتحليلها - إلى حد ما - وعرف مثلا أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الأيدروجين والأكسجين! وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء! وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب في ثاني أكسيد الكربون! وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضا! ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها.. وهو شيء على كثرته قليل قليل ...

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء:

                                                                                                                                                                                                                                      وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه. وما أنتم له بخازنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      أرسلنا الرياح لواقح بالماء، كما تلقح الناقة بالنتاج; فأنزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح، فأسقيناكموه فعشتم به:

                                                                                                                                                                                                                                      وما أنتم له بخازنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2135 ] فما من خزائنكم جاء، إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم.

                                                                                                                                                                                                                                      والرياح تنطلق وفق نواميس كونية، وتحمل الماء وفقا لهذه النواميس، وتسقط الماء كذلك بحسبها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن من الذي قدر هذا كله من الأساس؟ لقد قدره الخالق، ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ عنه كل الظواهر:

                                                                                                                                                                                                                                      وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                      ونلحظ في التعبير أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء.. فأسقيناكموه .. والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء، وجعلنا الماء صالحا لحاجتكم، وقدرنا هذا وذاك. وأجريناه وحققناه بقدر الله. والتعبير يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله، ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول الماء للشراب. لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره المتعلق بكل حركة وحادث.. سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته هناك في حركات الأنفس.. تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين، وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات والأرضين، وفي الرياح والماء والاستقاء. وكله من سنة الله التي يجري بها قدر الله. وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس والأشياء سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يتم السياق رجع كل شيء إلى الله، فيرد إليه الحياة والموت، والأحياء والأموات، والبعث والنشور.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون. ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين. وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يلتقي المقطع الثاني بالمقطع الأول. فهناك قال:

                                                                                                                                                                                                                                      وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يقرر أن الحياة والموت بيد الله، وأن الله هو الوارث بعد الحياة، وأنه هو يعلم من كتب عليهم أن يستقدموا فيتوفوا، ومن كتب عليهم أن يؤجلوا فيستأخروا في الوفاة وأنه هو الذي يحشرهم في النهاية، وإليه المصير:

                                                                                                                                                                                                                                      إنه حكيم عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      يقدر لكل أمة أجلها بحكمته، ويعلم متى تموت، ومتى تحشر، وما بين ذلك من أمور..

                                                                                                                                                                                                                                      ونلاحظ في هذا المقطع وفي الذي قبله تناسقا في حركة المشهد. في تنزيل الذكر. وتنزيل الملائكة. وتنزيل الرجوم للشياطين. وتنزيل الماء من السماء.. ثم في المجال الذي يحيط بالأحداث والمعاني، وهو مجال الكون الكبير: السماء والبروج والشهب، والأرض والرواسي والنبات، والرياح والمطر.. فلما ضرب مثلا للمكابرة جعل موضوعه العروج من الأرض إلى السماء خلال باب منها مفتوح في ذات المجال المعروض.. وذلك من بدائع التصوير في هذا الكتاب العجيب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية