الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .

كتاب الرهون .

والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى : ( ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) .

والنظر في هذا الكتاب : في الأركان ، وفي الشروط ، وفي الأحكام .

والأركان هي النظر في الراهن ، والمرهون ، والمرتهن ، والشيء الذي فيه الرهن ، وصفة عقد الرهن .

[ القول في الأركان ] .

الركن الأول : فأما الراهن فلا خلاف أن من صفته أن يكون غير محجور عليه من أهل السداد ، والوصي يرهن لمن يلي النظر عليه إذا كان ذلك سدادا ، ودعت إليه الضرورة عند مالك . وقال الشافعي : يرهن لمصلحة ظاهرة ، ويرهن المكاتب والمأذون عند مالك . قال سحنون : فإن ارتهن في مال أسلفه لم يجز ، وبه قال الشافعي .

واتفق مالك ، والشافعي على أن المفلس لا يجوز رهنه . وقال أبو حنيفة : يجوز .

واختلف قول مالك في الذي أحاط الدين بماله هل يجوز رهنه ؟ ( أعني : هل يلزم أم لا يلزم ؟ ) : فالمشهور عنه أنه يجوز ( أعني : قبل أن يفلس ) ، والخلاف آيل إلى هل المفلس محجور عليه أم لا ؟ وكل من صح أن يكون راهنا صح أن يكون مرتهنا .

الركن الثاني ( وهو الرهن ) : وقالت الشافعية : يصح بثلاثة شروط :

الأول : أن يكون عينا ، فإنه لا يجوز أن يرهن الدين .

الثاني : أن لا يمتنع إثبات يد الراهن المرتهن عليه كالمصحف . ومالك يجيز رهن المصحف ، ولا يقرأ فيه المرتهن ، والخلاف مبني على البيع .

الثالث : أن تكون العين قابلة للبيع عند حلول الأجل . ويجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان كالزرع ، والثمر لم يبد صلاحه ، ولا يباع عنده في أداء الدين إلا إذا بدا صلاحه ، وإن حل أجل الدين .

[ ص: 618 ] وعن الشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه ، ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع . قال أبو حامد : والأصح جوازه .

ويجوز عند مالك رهن ما لم يتعين كالدنانير ، والدراهم إذا طبع عليها ، وليس من شرط الرهن أن يكون ملكا للراهن لا عندمالك ، ولا عند الشافعي ، بل قد يجوز عندهما أن يكون مستعارا .

واتفقوا على أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن . واختلفوا إذا كان قبض المرتهن له بغصب ، ثم أقره المغصوب منه في يده رهنا : فقال مالك : يصح أن ينقل الشيء المغصوب من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن ، فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهنا في يد الغاصب قبل قبضه منه . وقال الشافعي : لا يجوز ، بل يبقى على ضمان الغصب إلا أن يقبضه .

واختلفوا في رهن المشاع : فمنعه أبو حنيفة ، وأجازه مالك ، والشافعي .

والسبب في الخلاف : هل تمكن حيازة المشاع أم لا تمكن ؟

الركن الثالث ( وهو الشيء المرهون فيه ) :

وأصل مذهب مالك في هذا أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات إلا الصرف ، ورأس المال في السلم المتعلق بالذمة ، وذلك لأن الصرف من شرطه التقابض ، فلا يجوز فيه عقدة الرهن ، وكذلك رأس مال السلم ، وإن كان عنده دون الصرف في هذا المعنى .

وقال قوم من أهل الظاهر : لا يجوز أخذ الرهن إلا في السلم خاصة ( أعني : في السلم فيه ) ، وهؤلاء ذهبوا إلى ذلك لكون آية الرهن واردة في الدين في المبيعات ، وهو السلم عندهم ، فكأنهم جعلوا هذا شرطا من شروط صحة الرهن; لأنه قال في أول الآية : ( ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) ، ثم قال : ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) .

فعلى مذهب مالك : يجوز أخذ الرهن في السلم ، وفي القرض ، وفي الغصب ، وفي قيم المتلفات ، وفي أروش الجنايات في الأموال ، وفي جراح العمد الذي لا قود فيه كالمأمومة والجائفة .

وأما قتل العمد ، والجراح التي يقاد منها فيتخرج في جواز أخذ الرهن في الدية فيها إذا عفا الولي قولان :

أحدهما : أن ذلك يجوز ، وذلك على القول بأن الولي مخير في العمد بين الدية والقود .

والقول الثاني : أن ذلك لا يجوز ، وذلك أيضا مبني على أن ليس للولي إلا القود فقط إذا أبى الجاني من إعطاء الدية .

ويجوز في قتل الخطإ أخذ الرهن ممن يتعين من العاقلة ، وذلك بعد الحول ، ويجوز في العارية التي تضمن ، ولا يجوز فيما لا يضمن ، ويجوز أخذه في الإجارات ، ويجوز في الجعل بعد العمل ، ولا يجوز قبله ، ويجوز الرهن في المهر ، ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة ، وبالجملة فيما لا تصح فيه الكفالة . وقالت الشافعية : المرهون فيه له شرائط ثلاث :

أحدها : أن يكون دينا ، فإنه لا يرهن في عين .

والثاني : أن يكون واجبا ، فإنه لا يرهن قبل الوجوب ، مثل أن يسترهنه بما يستقرضه ، ويجوز ذلك عند مالك .

[ ص: 619 ] والثالث : أن لا يكون لزومه متوقعا أن يجب ، وأن لا يجب كالرهن في الكتابة ، وهذا المذهب قريب من مذهب مالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية