الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " عباده أنه مؤاخذهم به ، بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله : " بما كسبت قلوبكم " ، ما تعمدت .

فقال بعضهم : المعنى الذي أوعد الله عباده مؤاخذتهم به : هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل .

ذكر من قال ذلك :

4466 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال : إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب فلا يؤاخذ بها . وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به . [ ص: 450 ]

4467 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن منصور قال : قال إبراهيم : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، قال : أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به .

4468 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن عمرو عن منصور عن إبراهيم : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، أن تحلف وأنت كاذب .

4469 - حدثني المثنى قال : [ حدثنا عبد الله بن صالح ] حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) [ سورة المائدة : 89 ] ، وذلك اليمين الصبر الكاذبة ، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة ، فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم ، أو يرد ذلك المال إلى أهله ، وهو قوله تعالى ذكره : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) إلى قوله : ( ولهم عذاب أليم ) [ سورة آل عمران : 77 ] .

4470 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، ما عقدت عليه .

4471 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

4472 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن عبد الملك عن عطاء قال : [ ص: 451 ] لا تؤاخذ حتى تصعد للأمر ، ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو ، فتعقد عليه يمينك .

قال أبو جعفر : والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، في الآخرة بها بما شاء من العقوبات - وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو . وكذلك روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوا فأما ما كسبته القلوب وعقدت فيه على الإثم ، فلم يكن يوجب فيه الكفارة . وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل .

وإذ كان ذلك تأويل الآية عندهم ، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، واحفظوا أيمانكم .

وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك ، كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون ، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفا .

[ ص: 452 ] وقال آخرون : المعنى الذي أوعد الله تعالى عباده المؤاخذة بهذه الآية ، هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلا . وفي ذلك أوجب الله عندهم الكفارة ، دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه ، يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف ، وليس ذلك كذلك .

ذكر من قال ذلك :

4473 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، يقول : بما تعمدت قلوبكم ، وما تعمدت فيه المأثم ، فهذا عليك فيه الكفارة .

4473 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع مثله سواء . [ ص: 453 ]

وكأن قائلي هذه المقالة ، وجهوا تأويل مؤاخذة الله عبده على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة ، إلى أنها مؤاخذة منه له بها بإلزامه الكفارة فيه . وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر ، في إيجاب الكفارة على الحالف اليمين الفاجرة منهم عطاء والحكم .

4474 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال : أخبرنا حجاج عن عطاء والحكم أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبا متعمدا : يكفر .

وقال آخرون : بل ذلك معنيان : أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارة منه ، والآخر منهما مؤاخذ به في الآخرة إلا أن يعفو .

ذكر من قال ذلك :

4475 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " أما " ما كسبت قلوبكم " فما عقدت قلوبكم ، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة - إرادة أن يقضي أمره . والأيمان ثلاثة : " اللغو ، والعمد ، والغموس " . والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل ، ثم يرى خيرا من ذلك ، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، فهذه لها كفارة .

وكأن قائل هذه المقالة ، وجه تأويل قوله : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، إلى غير ما وجه إليه تأويل قوله : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، وجعل قوله : بما كسبت قلوبكم ، الغموس من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل - وقوله : " بما عقدتم الأيمان " ، اليمين التي يستأنف فيها الحنث أو البر ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبر فيها .

وقال آخرون : بل ذلك : هو اعتقاد الشرك بالله والكفر .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 454 ]

4476 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال : حدثني يحيى بن أيوب عن محمد - يعني ابن عجلان - : أن زيد بن أسلم كان يقول في قول الله تعالى ذكره : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، مثل قول الرجل : " هو كافر ، هو مشرك " ، قال : لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه .

4477 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : اللغو في هذا ، الحلف بالله ما كان بالألسن ، فجعله لغوا ، وهو أن يقول : " هو كافر بالله ، وهو إذا يشرك بالله ، وهو يدعو مع الله إلها " ، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في " سورة البقرة " : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، قال : بما كان في قلوبكم صدقا ، واخذك به . فإن لم يكن في قلبك صدق لم يؤاخذك به ، وإن أثمت .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان ، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان هو ما قصدته وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده ، وذلك يكون منها على وجهين :

أحدهما : على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثما ، وبفعله مستحقا المؤاخذة من الله عليها . وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله ، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله ، قاصدا قيل الكذب ، وذاكرا أنه قد فعل ما حلف [ ص: 455 ] عليه أنه لم يفعله ، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل . فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة ، إن شاء واخذه به في الآخرة ، وإن شاء عفا عنه بتفضله ، ولا كفارة عليه فيها في العاجل ، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها . وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها . والحالف الكاذب في يمينه ، ليست يمينه مما يتبدأ فيه الحنث ، فتلزم فيه الكفارة .

والوجه الآخر منهما : على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك . فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه . فإذا حنث فيه بعد حلفه ، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارة لذنبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية