الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 176 ] فصل في ذكر مراتب الصيغ

                                                      زعم إمام الحرمين وابن القشيري أن أعلاها أسماء الشرط ، والنكرة في النفي ، وادعى القطع بوضع ذلك العموم ، وأن علمه بذلك تسمية خارجة مخصوصة رأسا . قال : وجمع الكثرة ظاهر فيه لا نص . وكلام المحصول وأتباعه مصرح بأن أعلاها أسماء الشرط والاستفهام ، ثم النكرة المنفية ، لدلاتها بالقرينة لا بالوضع ، وعكس الهندي في باب التراجيح ، فقدم النكرة المنفية على الكل ، فحصل ثلاثة آراء .

                                                      وقال ابن السمعاني : ألفاظ الجموع أبين وجوه العموم ، ثم يليها اسم الجنس المعرف باللام ، وظاهره أن الإضافة دون ذلك في الرتبة .

                                                      وعكس الإمام فخر الدين هذه المقالة في تفسيره ، فزعم أن الإضافة أدل على العموم من الألف واللام ، والنكرة المنفية أدل على العموم منها في سياق النفي ، والتي بمن أدل من المجردة منها .

                                                      ويؤيد الأول قول أبي علي الفارسي إن مجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة .

                                                      وقال إلكيا الطبري في التلويح : ألفاظ العموم أربعة :

                                                      أحدها : عام بصيغته ومعناه كالرجال والنساء .

                                                      والثاني : عام بمعناه لا بصيغته كالرهط والإنس والجن وغيرها من أسماء الأجناس ، وهذا لا خلاف فيه . [ ص: 177 ]

                                                      والثالث : ألفاظ مبهمة نحو " ما ومن " ، وهذا يعم كل واحد .

                                                      والرابع : النكرة في سياق النفي نحو لم أر رجلا ، وذلك يعم لضرورة صحة الكلام ، وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام ، لا أنه يتناول الجمع بصيغته ، فالعموم فيه من القرينة ، فلهذا لم يختلفوا فيه . انتهى . وقال إلكيا في موضع آخر : العام الذي لم يرد على سبب أقوى من الوارد ، ولهذا اختلفوا في التمسك بعمومه دون الأول ، وقال الشيخ في شرح الإلمام : بحث بعض المتأخرين الباحثين لا المصنفين في منع تفاوت رتب العموم نظرا إلى أن دلالة اللفظ العام على أفراده وضعية ولا تفاوت في الوضع وتناوله للأفراد .

                                                      وقد صرح في المستصفى بتفاوت مراتب العموم في تناولها لبعض الأفراد ، لكن هذا التفاوت ليس من جهة الوضع وإنما هو لأمور خارجة عنه ، والعموم يضعف بأن لا يظهر فيه قصد التعميم ، وسر ذلك بأن يكثر المخرج منه ، ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة ، ومثله بأصل دلالة البيع ، فإن دلالة قوله عليه السلام : { لا تبيعوا البر بالبر } على تحريم الأرز أظهر من دلالة هذا العموم على تحليله ، ولهذا جوز عيسى بن أبان . دون ما بقي على العموم ، قال : ولا يبعد ذلك عندنا فيما بقي عاما ، لأنا لا نشك في أن العمومات بالنسبة إلى بعض المسميات تختلف بالقوة لاختلاف ظهور إرادة قصد ذلك المسمى بها ، فإذا تقابلا وجب تقديم أقوى العمومين ، وكذا القياسان إذا تقابلا وجب تقديم أجلاهما وأقواهما قال الشيخ : أما ظهور قصد التعميم فلا شك في اقتضائه القوة ، لكن قد يقال : هل المعتبر في الضعف عدم قصد التعميم ، أو قصد عدم التعميم ؟ والظاهر الثاني ، وظاهر كلام " المستصفى " الأول ، ثم ذلك إنما يكون بقرائن خارجة عن مدلول اللفظ ونحوه . [ ص: 178 ]

                                                      ثم قسموا المراتب على ثلاثة أقسام .

                                                      أحدها : أن يظهر أن الرسول عليه السلام لم يقصد التعميم وإن كان اللفظ عاما لغة ، كقوله : { فيما سقت السماء العشر } فإن سياقه لبيان قدر الواجب لا غير ، فهذا لا عموم له في قصده ، وكذا قوله تعالى : { وثيابك فطهر } لا عموم له في الآلة المطهرة ، لأن المقصود الأمر بأصل التطهير .

                                                      الثاني : لفظ عام ظهر منه قصد التعميم بقرينة زائدة على اللفظ ، فحكم إمام الحرمين بأنه لا يؤول بقياس ، قال بعض المتأخرين : وفيه نظر ، فإن كانت القرينة تفيد العلم بالتعميم صار نصا ، وإن لم يفده إلا قوة الظن ، فما المانع من تأويله بقياس أجلى منه في النظر ؟ فلا وجه لهذا الإطلاق

                                                      الثالث : لفظ عام لغة ولا قرينة معه في تعميم ، ولا تقتضيه ، فالواجب إذا أول وعضد بقياس اتباع الأرجح في الظن ، فإن استويا وقف عند القاضي ، وصوبه بعضهم ، وقدم الإمام الخبر لنصيته ، وهو كقوله : { إنما الأعمال بالنيات } . انتهى .

                                                      وإمام الحرمين يقول ، إنه لو قدم ظني القياس على ظني اللفظ لكان تقديما لمرتبة القياس على مرتبة الخبر ، وإذا آل الأمر إلى تقديم الأرجح في الظن فقياس الشبه ضعيف ، فإن قيل به ، فيقدم عليه العموم بالنظر إلى رتبته ; ورتبته العموم ، وأما النظر إلى الجزئيات فلا ينبغي أن يقدم القياس الشبهي إلا عند ضعف العموم ضعفا شديدا ، بحيث يكون قياس الشبه أغلب [ ص: 179 ] على الظن منه ، فإنا رأيناهم يستدلون بعمومات ونصوص بعيدة التناول في القصد لمحل النزاع بظهور القصد .

                                                      وأما قياس العلة فهو أرفع من الشبه ، وأما ما ليس فيه إلا مجرد مناسبة يبديها النظر لا تقوى بالتعليل ، فالأولى تقديم العموم والظاهر عليها ، لا سيما إذا قرب أن يزاحم ، وكان ترجيحها على ما يعامل به ليس بقوي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية