الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة أربع عشرة

فمن الحوادث فيها قصة القادسية

وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في أول [يوم من]] المحرم من سنة أربع عشرة ، فنزل على ماء يدعى صرارا ، فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد ، أيسير أم يقيم؟ وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف ، وكان عثمان يدعى في زمان عمر رديفا ، وكانوا إذا لم يقدر هذان على شيء مما يريدون ثلثوا بالعباس ، قال: فقال عثمان لعمر: ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى: الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فأخبرهم الخبر الذي اقتصصناه في ذكر ما هيج أمر القادسية؛ من اجتماع الناس على يزدجرد ، وقصد فارس إهلاك العرب ، فقال عامة الناس:

سر وسر بنا ، فقال: استعدوا فإني سائر إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا .

ثم بعث إلى أهل الرأي ، فاجتمع [إليه] أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلام العرب ، فقال: أحضروني الرأي ، فاجتمع ملؤهم على أن يبعث رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقيم ، ويرميه بالجنود ، فإن كان الذي يشتهي من الفتح ، فهو الذي يريد ، وإلا أعاد رجلا وندب جندا آخر .

فأرسل إلى علي رضي الله عنه ، وكان قد استخلفه على المدينة ، وإلى طلحة ، وكان قد بعثه على المقدمة ، وجعل على المجنبتين الزبير وعبد الرحمن بن عوف ، فقال [ ص: 161 ] له عبد الرحمن: أقم وابعث جندا ، فليس انهزام جندك كهزيمتك ، فقال: إني كنت عزمت على الخروج ، فقد رأيت أني أقيم وأبعث رجلا ، فمن ترونه؟ فقالوا:

سعد بن مالك ، وكان سعد على صدقات هوازن ، فكتب إليه عمر أن ينتخب ذوي الرأي والنجدة ، فانتخب ألف فارس ثم أرسل إليه ، فقدم .

وكتب عمر إلى المثنى: تنح إلى البر ، وأقم من الأعاجم قريبا على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري .

وعاجلتهم الأعاجم ، فخرج المثنى بالناس حتى نزل العراق ، ففرق الناس في مسالحه ، وكانوا كالأسد ينازعون فرائسهم ، وكانت فارس منزعجة .

ولما قدم سعد ولاه عمر حرب العراق ، وقال: يا سعد ، لا يغرنك إن قيل: خال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه ، فإنه ليس بين أحد وبين الله نسب إلا الطاعة ، وإنك تقدم على أمر شديد ، فالصبر الصبر على ما أصابك .

ثم سرحه فيمن اجتمع معه ، فخرج قاصدا إلى العراق في أربعة آلاف ، ثم أمده عمر بثلاثة آلاف .

وكتب إلى جرير بن عبد الله والمثنى أن يجتمعا إلى سعد ، وأمره عليهما ، فمات المثنى من جراحة كان قد جرحها .

وبعض الناس يقول: كان أهل القادسية ثمانية آلاف ، وبعضهم يقول: تسعة آلاف ، وبعضهم يقول: اثني عشر ألفا .

وخرج سعد في ثمانية آلاف ، ثم أضيف إليه خلق ، فشهد القادسية مع سعد بضعة وثلاثون ألفا . [ ص: 162 ]

وكتب عمر إلى سعد: إذا جاءك كتابي [هذا] فعشر الناس وأمر على أجنادهم ، وواعد الناس القادسية ، واكتب إلي بما يستقر أمر الناس عليه .

فجاءه الكتاب وهو بشراف ، ثم كتب إليه: أما بعد ، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين ، وتوكل على الله ، واستعن به على أمرك كله ، واعلم أنك تقدم على قوم عددهم كثير ، وبأسهم شديد ، فبادروهم بالضرب ولا يخدعنكم ، فإنهم خدعة [مكرة] ، وإذا انتهيت [إلى القادسية ] والقادسية باب فارس في الجاهلية ، وهو منزل حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة ، فلتكن مسالحك على أنقابها ، فإنهم إذا أحسوك رموك بجمعهم ، فإن أنتم صبرتم لعدوكم ونويتم الأمانة ، رجوت أن تنصروا عليهم ، وإن تكن الأخرى انصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم حتى يرد الله لكم الكرة .

[ثم قدم عليه كتاب جواب عمر: أما بعد] ، فتعاهد قلبك ، وحادث جندك بالموعظة ، والصبر الصبر ، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية ، والأجر على قدر الحسبة ، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، وصف لي منازل المسلمين كأني أنظر إليها ، وقد ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم ، فإن منحك الله أكتافهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن ، فإنها خرابها إن شاء الله .

ومضى سعد حتى نزل القادسية وأصاب المسلمون في طريقهم غنائم من أهل فارس عارضوها في طريقهم ، وجاء الخبر إلى سعد أن الملك قد ولى رستم الأرمني حربه ، فكتب بذلك إلى عمر ، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم ، واستعن بالله وتوكل عليه .

فعسكر رستم بساباط دون المدائن ، وزحف بالخيول والفيول ، وبعثوا إلى [ ص: 163 ] سعد أنه لا بد لكم منا ، ولا سلاح معكم ، فما جاء بكم؟ وكانوا يضحكون منهم ومن نبلهم ، ويقولون: هذه مغازل . فلما أبوا أن يرجعوا عن حربهم ، قالوا لهم: ابعثوا لنا رجلا منكم عاقلا يبين لنا ما جاء بكم ، فقال المغيرة بن شعبة: أنا ، فعبر إليهم ، فقعد مع رستم على السرير ، فصاحوا عليه ، فقال: إن هذا لم يزدني رفعة ولم ينقص صاحبكم ، فقال رستم: صدق ، ثم قال: ما جاء بكم؟ فقال: إنا كنا قوما في ضلالة ، فبعث الله فينا نبيا فهدانا الله به ، فإن قتلتمونا دخلنا الجنة ، وإن قتلتم دخلتم النار ، فقال: أو ماذا؟ قال: أو تؤدون الجزية ، فلما سمعوا نخروا وصاحوا ، وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم ، فقال المغيرة: تعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟ فقال رستم: بل نعبر إليكم ، فاستأخر المسلمون حتى عبر منهم من عبر فحملوا عليهم فهزموهم ، فأصاب المسلمون فيما أصابوا جرابا من كافور فحسبوه ملحا ، فألقوا منه في الطبيخ ، فلما ذاقوه قالوا: لا خير في هذا .

وانهزم القوم حتى انتهوا إلى الصراة ، فطلبوهم فانهزموا حتى انتهوا إلى المدائن ، ثم انهزموا حتى أتوا شاطئ دجلة ، فمنهم من عبر من كلواذى ، ومنهم من عبر من أسفل المدائن ، فحاصروهم حتى ما يجدون طعاما يأكلونه إلا كلابهم وسنانيرهم ، فخرجوا ليلا فلحقوا بجلولاء ، فأتاهم المسلمون ، وعلى مقدمة سعد هاشم بن عتبة ، وهي الوقعة التي كانت ، فهزم المشركون حتى ألحقهم سعد بنهاوند .

وبعث سعد بجماعة من المسلمين إلى يزدجرد يدعونه إلى الإسلام ، فلما دخلوا عليه ، قال: ما الذي دعاكم إلى غزونا ، والولوع ببلادنا ، فقال له النعمان بن مقرن: إن الله تعالى أرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ، فأمرنا أن ندعو الناس إلى الإنصاف ، ونحن ندعوكم إلى ديننا ، فإن أبيتم فالمناجزة ، فقال يزدجرد : إني لا أعلم في الأرض أمة أشقى منكم ، فقال المغيرة بن زرارة الأسدي: اختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإن شئت السيف ، أو تسلم ، فقال: أتستقبلني بمثل هذا؟ فقال: ما استقبلت إلا من كلمني ، فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك لا شيء لكم عندي ، ثم قال: ائتوني بوقر من تراب واحملوه على أشرف هؤلاء ، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن ، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليهم رستم حتى يدفنه وجنده [ ص: 164 ] في خندق القادسية ، ثم أورده بلادكم ، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور .

ثم قال: من أشرفكم؟ فسكت القوم ، فقال عاصم بن عمرو: أنا ، فحملنيه ، فحمله على عنقه ، فأتى به سعدا ، فقال: ملكنا الله أرضهم؛ تفاؤلا بأخذ التراب .

وأقام سعد بالقادسية شهرين وشيئا حتى ظفر وعج أهل السواد إلى يزدجرد ، وقالوا: إن العرب قد نزلوا القادسية فلم يبقوا على شيء ، وأخبروا ما بينهم وبين الفرات ، ولم يبق إلا أن يستنزلونا ، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا .

فبعث إليهم رستم ، وجاء الخبر إلى سعد ، فكتب بذلك إلى عمر ، وكان من رأي رستم المدافعة والمناهلة ، فأبى عليه الملك إلا الخروج ، وقال له: إن لم تسر أنت سرت بنفسي ، فخرج حتى نزل بساباط ، وجمع أداة الحرب ، وبعث على مقدمته الجالنوس في أربعين ألفا ، وخرج في ستين ألفا ، واستعمل على ميمنته الهرمزان ، وعلى ميسرته مهران بن بهرام ، وعلى ساقته النبدوان في عشرين ألفا ولهم أتباع ، فكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف .

فلما فصل رستم من ساباط أخذ له رجل من أصحاب سعد ، فقال له: ما جئتم تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعود الله ، قال: وما هو؟ قال: أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تسلموا ، [قال:] فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: في موعود الله أن من قتل منا قبل ذلك دخل الجنة ، وينجز لمن بقي منا ما قلت لك ، فقتله .

ثم خرج حتى نزل ببرس ، فغصب أصحابه الناس أموالهم ، ووقعوا على النساء ، وشربوا الخمور ، فقام إلى الناس ، فقال: إن الله كان ينصركم على عدوكم لحسن السيرة ، وكف الظلم والوفاء بالعهد ، فأما إذا تحولتم عن هذه الأعمال فلا أرى الله إلا مغيرا ما بكم . [ ص: 165 ]

ثم نزل مما يلي الفرات ، ودعا أهل الحيرة ، فقال: فرحتم بدخول العرب [علينا] بلادنا ، وكنتم عونا لهم علينا ، وقويتموهم بالأموال ، فقالوا: والله ما فرحنا بمجيئهم ، وما هم على ديننا ، وأما قولك: كنتم عونا لهم ، فما يحوجهم إلى ذلك وقد هرب أصحابكم منهم وخلوا لهم القرى ، وقولك: "قويناهم بالأموال" ، فإنا صانعنا [هم بالأموال] عن أنفسنا .

فارتحل رستم فنزل النجف ، وكان بين خروجه من المدائن إلى أن لقي سعدا أربعة أشهر لا يقدم ولا يقاتل ، رجاء أن يضجروا بمكانهم ، وأن يجهدوا فينصرفوا ، وكره قتالهم ، فطاولهم والملك يستعجله ، وعهد عمر إلى سعد والمسلمين أن ينزلوا على حدود أرضهم وأن يطاولهم ، فنزلوا القادسية ، وقد وطنوا أنفسهم على الصبر والمطاولة ، فكانوا يغيرون على السواد ، فانتسفوا ما حولهم وأعدوه للمطاولة .

وكان عمر يمدهم ، وقال بعض الناس لسعد: قد ضاق بنا المكان فأقدم ، فزبره وقال: إذا كفيتم الرأي فلا تكلفوه ، وخرج سواد وحميضة في مائة مائة ، فأغاروا على النهرين ، وقد كان سعد نهاهما أن يمعنا ، وبلغ ذلك رستم ، فبعث خيلا ، فبعث سعد إليهم قوما فغنموا وسلموا . ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم ، وبات فيه يحرسه وينظر .

فلما أدبر الليل أتى أفضل من توسم في ناحية العسكر ، فإذا فرس لهم لم ير في خيل القوم مثله ، فانتضى سيفه فقطع مقود الفرس ثم ضمه إلى مقود فرسه ثم حرك فرسه ، فخرج يعدو ، ونذر به [الرجل] والقوم ، فركبوا الصعب والذلول وخرجوا في طلبه ، فلحقه فارس ، فعدل إليه طليحة فقصم ظهره بالرمح ، ثم لحق به آخر ، ففعل به مثل ذلك ، ثم لحق به آخر فكر عليه طليحة ودعاه إلى الإسار فاستأسر ، فجاء به إلى سعد فأخبره الخبر ، فقال للأسير: تكلم ، فقال: قد باشرت الحروب وغشيتها ، وسمعت بالأبطال ولقيتها ، ما رأيت ولا سمعت بمثل هذا ، أن رجلا قطع عسكرين لا [ ص: 166 ] يجترئ عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفا ، فلم يرض أن يخرج حتى سلب فارس الجند ، وهتك أطناب بيته ، فطلبناه فأدركه الأول ، وهو فارس الناس ، يعدل بألف فارس فقتله ، ثم أدركه الثاني وهو نظيره فقتله ، ثم أدركته ولا أظنني خلفت بعدي من يعدلني ، فرأيت الموت فاستأسرت .

ثم أخبرهم بأن الجند عشرون ومائة ألف ، وأن الأتباع مثلهم خدام لهم ، وأسلم الرجل وسماه سعد مسلما ، وعاد إلى طليحة وقال: والله لا يهزمون على ما أرى من الوفاء والصدق والإصلاح ، لا حاجة لي في صحبة فارس ، فكان من أهل البلاء يومئذ .

وقال سعد لقيس بن هبيرة: اخرج حتى تأتيني بخبر القوم ، فخرج وسرح عمرو بن معديكرب ، وطليحة ، فإذا خيل القوم ، فأنشب قيس القتال وطاردهم ، فكانت هزيمتهم ، وأصاب منهم اثني عشر رجلا وثلاثة أسراء وأسلابا ، فأتوا بالغنيمة سعدا .

فلما أصبح رستم تقدم حتى انتهى إلى العتيق فتباسر حتى إذا كان بحيال قديس خندق خندقا بحيال عسكر سعد ، وكان رستم منجما ، فكان يبكي مما يرى من أسباب تدل على غلبة المسلمين إياهم ، ومما رأى أن عمر دخل عسكر فارس ومعه ملك ، فختم [على] سلاحهم ثم حزمه ودفعه إلى عمر .

وكان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا ، في القلب ثمانية عشر ، وفي المجنبتين خمسة عشر [فيلا] ، منها فيل سابور الأبيض ، وكان أعظم الفيلة .

فلما أصبح رستم من ليلته التي بات بها في العتيق ، ركب في خيله ، فنظر إلى المسلمين ، ثم صعد نحو القنطرة وحرز [الناس] ، وراسل زهرة ، فخرج إليه وأراد أن يصالحهم ، وجعل يقول: إنكم جيراننا ، وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا ، فكنا نحسن جوارهم ، ونكف الأذى عنهم ، ونوليهم المرافق الكثيرة ، [فنرعيهم [ ص: 167 ] مراعينا] ، ونميرهم من بلادنا ، وإنما يريد بذلك الصلح [ولا يصرح] ، فقال زهرة: ليس أمرنا أمر أولئك ، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا ، إنما طلبنا الآخرة ، كنا نضرع إليكم فنطلب ما في أيديكم ، فبعث الله إلينا رسولا فأجبناه إلى دين الحق .

فدعا رستم رجال أهل فارس ، فذكر لهم ذلك ، فأنفوا ، فقال: أبعدكم الله ، فمال الرفيل إلى زهرة فأسلم وأسلم .

وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة ، [وبسر بن أبي رهم ، وعرفجة بن هرثمة] وحذيفة بن محصن ، وربعي بن عامر ، [وقرفة بن زاهر التيمي ، ومذعور بن عدي العجلي ، والمضارب بن يزيد العجلي] ، ومعبد بن مرة [العجلي] ، وكان من دهاة العرب ، فقال: إني مرسلكم إلى هؤلاء [القوم] ، فما عندكم؟ قالوا [جميعا:] نتبع ما تأمرنا به ، وننتهي إليه ، فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس ، فكلمناهم به . فقال سعد: هذا فعل الحزمة ، اذهبوا فتهيئوا . فقال ربعي بن عامر: إن الأعاجم [لهم آراء وآداب] ، متى ما نأتهم جميعا يروا أنا قد احتفلنا لهم ، فلا تزيد على رجل ، فسرحوني .

فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره ، فاحتبسه الذين على القنطرة ، وأرسل إلى رستم بمجيئه ، فاستشار عظماء أهل فارس ، فقال: ما ترون ، أنتهاون أم نباهي؟

قالوا: نباهي ، فأظهروا الزبرجد ، وبسطوا البسط والنمارق ، ووضع لرستم سرير ذهب ، عليه الوسائد المنسوجة بالذهب . وأقبل ربعي وغمد سيفه لفافة ثوب خلق ، [ ص: 168 ] ورمحه معلوب بقد ، معه حجفة من جلود البقر ، فجاء حتى جلس على الأرض ، وقال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم ، فكلمه وقال: ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، من جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فمن قبل ذلك قبلنا منه ، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله . قال: وما [هو] موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن بقي .

فقال رستم: هل لكم أن تؤخروا هذا الأمر لننظر فيه وتنظروا ، قال: إنا لا نؤجل أكثر من ثلاث .

فخلص رستم برؤساء أهل فارس ، وقال: ما ترون ، هل رأيتم قط كلاما أوضح وأعز من كلام هذا؟ قالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب ، أما ترى إلى ثيابه ، فقال: ويحكم لا تنظرون إلى الثياب ، ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ، إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب .

فرجع ربعي إلى أن ينظروا في الأجل ، فلما كان في الغد بعثوا: [أن] ابعث إلينا ذلك الرجل ، فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن ، فلما جاء إلى البساط قالوا: انزل ، قال: ذاك لو جئتكم في حاجتي ، الحاجة لكم لا لي ، فجاء حتى وقف ورستم على سريره ، فقال له: انزل ، قال: لا أفعل ، فقال: ما بالك ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟

قال: أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء ، وهذه نوبتي ، فتكلم بنحو ما تكلم به ربعي ، ورجع .

فلما كان من الغد أرسلوا: ابعث لنا رجلا ، فبعث إليهم المغيرة بن شعبة ، [ ص: 169 ] فجاء حتى جلس مع رستم على سريره فترتروه وأنزلوه ومغثوه ، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوما أسفه منكم ، إنا معشر العرب [سواء] ، لا يستعبد بعضنا بعضا ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ، فقال رستم: لم نزل متمكنين من الأرض والبلاد ، ظاهرين على الأعداء ، ننصر على الناس ، ولا ينصرون علينا ، ولم يكن في الناس أمة أصغر عندنا أمرا منكم ، ولا نراكم شيئا ولا نعدكم ، وكنتم إذا قحطت أرضكم استعنتم بأرضنا ، فنأمر لكم بالشيء من التمر والشعير ، ثم نردكم ، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلادكم ، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم ، وآمر لكل رجل منكم بوقرتي تمر وثوبين ، وتنصرفون عنا ، فإني لست أشتهي أن أقتلكم ولا آسركم .

فتكلم المغيرة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال: لسنا ننكر ما وصفت به نفسك وأهل بلادك من التمكن في البلاد ، وسوء حالنا ، غير أن الأمر غير ما تذهبون إليه ، إن الله تعالى بعث فينا رسولا فذكر نحو كلام ربعي ، إلى أن قال: فكن لنا عبدا تؤدي الجزية وأنت صاغر ، وإلا السيف إن أبيت ، فنخر نخرة ، واستشاط غضبا ، ثم حلف بالشمس: لا يرتفع الضحى غدا حتى أقتلكم أجمعين .

فانصرف المغيرة ، وخلص رستم بأشراف فارس ، فقال: إني أرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم ، ثم قال رستم للمسلمين: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟

فقالوا: لا بل اعبر إلينا ، فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم ، فأراد المشركون العبور على القنطرة ، فأرسل إليهم سعد ولا كرامة ، متى قد غلبناكم عليها لن نردها عليكم ، تكلفوا معبرا غير القناطر ، فباتوا يسكرون العتيق والقصب حتى الصباح بأمتعتهم ، فجعلوه طريقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية