الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 321 ] قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون

                                                          * * *

                                                          كان السبب في غرورهم ، واستعلائهم الفاسد أنهم بتوالي نعم الله تعالى عليهم حسبوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولذلك قالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة وقد تلونا ذلك من قبل .

                                                          وقد دلاهم الشيطان بغرور فكانوا يحسبون ذلك ، ويدعون في ظاهر قولهم أنهم يؤمنون ، ويواجهون النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفرهم به ، فأمر الله تعالى نبيه الذي يواجهونه بذلك الكفر أن يتحداهم ليكشف أمرهم بأن يتمنوا الموت فقال تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كانت الدار الآخرة التي تكون عند الله علام الغيوب ولا سلطان لأحد سواه ، خالصة لكم من دون الناس ، أي أنكم في منزلة والناس دونكم ، ولا تكون إلا لكم ; لأن غيركم من الناس - سواء كانوا أتباع محمد أم لا - هم دونكم لا يبلغون منزلتكم بل أنتم وحدكم الذين تنالونها .

                                                          إن كانت هذه الحياة الآخرة لكم خالصة فتمنوا الموت الذي هو الطريق إليها إن كنتم صادقين في زعمكم ; لأن من آمن بأنه المختص بنعمة تمنى الوصول ، أن يسرع في الذهاب إليها ، وإنها جنات ونعيم مقيم ، فتمنوا الموت الذي هو الطريق الوحيد إليها ، إن كنتم مؤمنين إيمان صدق وإذعان بما تدعون .

                                                          [ ص: 322 ] وهنا إشارة بيانية يحسن التنبيه إليها :

                                                          الأولى : في كلمة ( لكم ) فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص ، وقد ابتدأ بها بيانا لزعمهم ، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس .

                                                          الثانية : الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين ، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه .

                                                          الثالثة : الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين ، بل هم كاذبون ; ولذلك كانت أداة التعليق هي إن في قوله : إن كنتم صادقين ولهذا نفى الله سبحانه أن يتمنوه .

                                                          * * *

                                                          تنبيه : يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى : بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنـزل الله بغيا وقوله تعالى : قل بئسما يأمركم به إيمانكم وفي قوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله

                                                          لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك ؟ ونقول ما تصل إليه مداركنا - والله هو الحكيم العليم - إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام ; ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم .

                                                          ولقد قال سبحانه وتعالى حاكما على حالهم بأنهم في ذات أنفسهم وفي مداركهم يعلمون مآثمهم ، ويعلمون كذبهم ; ولذلك ليست الجنة لهم ، ولذا لا يتمنون الموت ، فقال تعالى : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم نفى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك التمني نفيا مؤبدا ، وأكد ذلك النفي بـ " لن " الدالة على النفي المؤبد ، وبقوله سبحانه وتعالى : أبدا وبذكر السبب ألا وهو ما قدمت أيديهم ، ومعنى ذلك أنهم كاذبون في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم كاذبون في قولهم : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة

                                                          [ ص: 323 ] وإنهم يعلمون ما قدموا من كفر ، وما قدمه أسلافهم ، ولم ينكروه عليهم من اتخاذ العجل ، ومن كفر بالنعم التي أنعم الله عليهم وكفروا بها .

                                                          وقوله : بما قدمت أيديهم الباء للسببية ، والمراد ما قدموه هم بأنفسهم ، من كفر قلوبهم ، وجحودهم بآيات الله تعالى ، واعتدائهم في يوم السبت ، وتأييدهم لأسلافهم في ذلك ، ومن كفرهم بألا يجاب الذي جاء مصدقا لما معهم ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا به ، ولكن لماذا عبر بأيديهم ، دون أنفسهم ; ونقول : أولا - يجوز ذلك تعبيرا عن الكل باسم الجزء ، وإن ذلك الجزء أظهر الأجزاء في العمل ، فهو الذي به البطش والاعتداء ، وارتكاب المآثم الجماعية .

                                                          وثانيا - فيه إشارة إلى الناحية الحسية فيهم ، فهم أيد باطشة آثمة ، وليس لهم قلوب مدركة عالمة .

                                                          ولقد سجل الله تعالى عليهم الظلم ، فقال تعالى : والله عليم بالظالمين وقد صدر الله سبحانه وتعالى الحكم بلفظ الجلالة تربية للمهابة ، ولبيان أنهم مأخوذون والله القادر القاهر هو الذي يأخذهم بظلمهم ، وبين عظيم علمه ، ودقة علمه ، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأظهر في موضع الإضمار فلم يقل سبحانه وتعالى عليم بهم وبما قدمت أيديهم بل قال : عليم بالظالمين ليسجل عليهم وصف ظلمهم ، وأنهم معاقبون بهذا الظلم الذي هو كالسجية لهم .

                                                          ولقد قال الله تعالى في هذا المعنى ، وهو طلب تمني الموت ، وامتناعهم في سورة الجمعة : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين والفرق بين النصين ، وإن كان كلاهما في مرتبة من البيان يعجز عنه البشر ، في أمرين :

                                                          الأمر الأول - أن الشرط في الآية الكريمة التي [نتصدى] لتعرف معناها شرط كبير ، وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس ، فالشرط يتضمن الخلوص لهم وقصرها ، ولن يتمنوا ذلك فكان النفي بـ لن ، والشرط خال من معنى زعمهم .

                                                          [ ص: 324 ] الثاني - أن الآية الثانية كان " الشرط الزعم بأنهم من أولياء الله من دون الناس ، فكان النفي بـ " لا " ، وهو دونه " فكان النفي بـ " لا " لا بـ " لن " على مقدار الشرط ، وكذلك يصرف الله الآيات في كتابه الحكيم .

                                                          وبعد ذلك التحدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه ، كان الوصف الحقيقي لبني إسرائيل بالنسبة للموت والحياة الآخرة ، وأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، ولا يؤمنون بأن لهم جزاء محمودا ، وأنه يرتقبهم خير ; ولذا تمسكوا بالحياة الدنيا ، لأن العصاة يظنون أنها الحياة وحدها ، ولا يرجون خيرا لأنفسهم المادية في لقاء الله تعالى ، فقال تعالت كلماته : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا

                                                          وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم بأنهم أحرص الناس على حياة بالقسم المؤكد باللام ونون التوكيد الثقيلة ، ونكر سبحانه وتعالى " حياة " في قوله تعالى : على حياة لتعميم معاني الحياة ، فهم يحرصون على حياة أيا كانت صورتها ، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز ، وسواء كانت حياة استعباد أم كانت حياة حرية ، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة ، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها ، أم كانت بكرامة من غير مهانة . وإن هذا يدل على كمال الحرص .

                                                          قال تعالى : ومن الذين أشركوا أي منهم من هم أحرص على حياة أيا كانت من الناس جميعا ، ومن الذين أشركوا ، وهم الوثنيون ، وخصوا بالذكر ، لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، وأولئك اليهود أهل كتاب ويؤمنون به في الجملة ، ولكنهم مذنبون تحيط بهم خطاياهم من كل ناحية .

                                                          وهم أحرص من المشركين على الحياة ; لأنهم يريدون الحياة على أية صفة عزيزة كريمة أو ذليلة ، أما المشركون من العرب فإنهم لا يريدونها إلا عزيزة لا ذلة فيها ، وشاعرهم الجاهلي يقول :


                                                          لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل     ماء الحياة بذلة كجهنم
                                                          وجهنم بالعز أطيب منزل



                                                          [ ص: 325 ] ولذلك كانوا أحرص على حياة ، والمشركون يحرصون على حياة عزيزة كريمة ، وإن كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور ، ولا حساب ولا عقاب ، ويصور الله سبحانه وتعالى حرصهم على الحياة بقوله تعالت كلماته : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة يود هنا بمعنى : يتمنى أحدهم ، أي أحد اليهود ، لو يعمر ألف سنة ، ولو هنا مصدرية وهي التي تجيء بعد التمني كقوله تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون فهنا " لو " مع الفعل بعدها مصدر غير أنها لا تنصب ( مثل أن ) . وذكر ألف عام لأنه أكبر عدد في زعمهم . . طلب أعرابي عطاء من حاكم من حكام بني أمية ، فأعطاه ألفا ، فقال له قائل : لو طلبت أكثر من ألف لأعطاك ، فقال : لو كنت أعلم أن فوق الألف عددا لطلبته ، فالألف كناية عن أكبر عدد .

                                                          ومع أنهم يودون الحياة إلى أقصى أمد ، ألفا أو أكثر ، فإن العذاب ملاقيهم ، قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم بالعذاب الذي يستقبلكم ; ولذا قال تعالى : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر الزحزحة الإبعاد أو الإزالة ، وهي تدل على المعاناة في الإبعاد والإخراج من المكان الذي حل فيه كقوله تعالى : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز

                                                          و" ما " في قوله : وما هو بمزحزحه من العذاب النافية ، والباء دالة على استغراق النفي ، وهي زائدة في الإعراب لها دلالة في المعنى ، والضمير " هو " يعود على الأحد الذي يود أن لو يعمر ألف عام أو أكبر عدد ممكن ، والمعنى على هذا التخريج : وما هو ؟ أي هذا الشخص بمبعده ولو بمعاناة ومعالجة عن العذاب تعميره ، فالمصدر المكون من أن يعمر فاعل لمزحزحه ، وقد أكد سبحانه وتعالى النفي بإعادة الضمير لتأكيد النفي ، وبالباء ، وبكلمة مزحزح .

                                                          وما ذلك النفي المؤكد لوجود العذاب مهما طال الزمن - إلا لأنه ارتكب من الخطايا ما يستحق ذلك ، والله تعالى عليم بكل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ; ولذا ختم الآية بقوله تعالى : والله بصير بما يعملون والله ذو الجلال والإكرام القادر القاهر الفاعل المختار بصير أي عالم علم من يبصر [ ص: 326 ] على مثال ما به الناس ، بما يعملونه من شرور وآثام ، وجحود بآيات الله تعالى في ماضيهم وحاضرهم ، ومنزل من العذاب بمقدار ما يستحقون . ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية