الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
لفظ " فعل " :

يجيء لفظ " فعل " كناية عن أفعال متعددة لا للدلالة على فعل واحد . فيفيد [ ص: 200 ] بهذا الاختصار ، كقوله تعالى : لبئس ما كانوا يفعلون ، فإنها تشمل كل منكر لا يتناهون عنه ، وقوله : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ، أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله .

وحيث أطلقت في كلام الله فهي محمولة على الوعيد الشديد كقوله تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، وقوله : وتبين لكم كيف فعلنا بهم . .

لفظ " كان "

وردت " كان " في الإخبار عن ذات الله وصفاته بالقرآن كثيرا وقد اختلف النحاة وغيرهم في أنها تدل على الانقطاع ، على مذاهب :

أحدها : أنها تفيد الانقطاع لأنها فعل يشعر بالتجديد .

والثاني : لا تفيده ، بل تقتضي الدوام والاستمرار ، وبه جزم ابن معطي في ألفيته ، حيث قال :


وكان للماضي الذي ما انقطعا

وقال الراغب في قوله تعالى : وكان الشيطان لربه كفورا ، نبه بقوله : " كان " على أنه لم يزل منذ أوجد منطويا على الكفر .

والثالث : أنه عبارة عن وجود شيء في زمان ماض على سبيل الإبهام . وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : " وكان الله [ ص: 201 ] غفورا رحيما " ، قاله الزمخشري في قوله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، عند تفسيره للآية في " الكشاف " .

وذكر ابن عطية في سورة الفتح أنها حيث وقعت في صفات الله فهي مسلوبة الدلالة على الزمان .

والصواب من هذه المقالات مقالة الزمخشري ، وإنها تفيد اقتران معنى الجملة التي تليها بالزمن الماضي لا غير ، ولا دلالة لها نفسها على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه ، بل إن أفاد الكلام شيئا من ذلك كان لدليل آخر .

وعلى هذا يحمل معناها فيما وقع في القرآن من إخبار الله تعالى عن صفاته وغيرها بلفظ " كان " كثيرا . مثل قوله تعالى : وكان الله سميعا عليما ، وكان الله واسعا حكيما ، " وكان الله غفورا رحيما " ، وكنا بكل شيء عالمين ، وكنا لحكمهم شاهدين .

وحيث أخبر الله بها عن صفات الآدميين فالمراد التنبيه على أنها فيهم غريزة وطبيعة مركوزة في النفس كقوله تعالى : وكان الإنسان عجولا ، وقوله : إنه كان ظلوما جهولا .

وقد تتبع أبو بكر الرازي استعمال " كان " في القرآن ، واستنبط وجوه استعمالها فقال : " كان " في القرآن على خمسة أوجه :

بمعنى الأزل والأبد ، كقوله تعالى : " وكان الله عليما حكيما " .

وبمعنى المعنى المنقطع ، كقوله تعالى : وكان في المدينة تسعة رهط ، وهو الأصل في معاني " كان " كما تقول : كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا أو نحوه .

[ ص: 202 ] وبمعنى الحال ، كقوله تعالى : كنتم خير أمة ، وقوله : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، وبمعنى الاستقبال ، كقوله تعالى : ويخافون يوما كان شره مستطيرا .

وبمعنى " صار " كقوله : وكان من الكافرين .

وتأتي " كان " في النفي ويكون المراد بها نفي صحة الخبر لا نفي وقوعه ولذا تؤول بمعنى " ما صح وما استقام " كقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، وقوله : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ، وقوله : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا .

لفظ " كاد "

وللعلماء في " كاد " مذاهب :

أحدها : أنها كسائر الأفعال نفيا وإثباتا ، فإثباتها إثبات ونفيها نفي ، لأن معناها المقاربة ، فمعنى كاد يفعل : قارب الفعل ، ومعنى ما كاد يفعل : لم يقاربه ، فخبرها منفي دائما ، ولكن النفي في الإثبات مستفاد من معناها ، لأن الإخبار بقرب الشيء يقتضي عرفا عدم حصوله ، وإلا لم يتجه الإخبار بقربه ، أما إذا كانت منفية فلأنه إذا انتفت مقاربة الفعل اقتضى عقلا عدم حصوله ، ويدل له قوله تعالى : إذا أخرج يده لم يكد يراها ، ولهذا كان أبلغ من قوله : " لم يرها " لأن من لم ير قد يقارب الرؤية .

والثاني : أنها تختلف عن سائر الأفعال إثباتا ونفيا ، فإثباتها نفي ، ونفيها إثبات ، ولذا قالوا : إنها إذا أثبتت نفت ، وإذا نفت أثبتت ، فإذا قيل : كاد يفعل ، [ ص: 203 ] فمعناه أنه لم يفعله بدليل قوله تعالى : وإن كادوا ليفتنونك ، لأنهم لم يفتنوه ، وإذا قيل : لم يكد يفعل ، فمعناه أنه فعله بدليل قوله تعالى : فذبحوها وما كادوا يفعلون ، لأنهم فعلوا الذبح .

والثالث : أنها في النفي تدل على وقوع الفعل بعسر وشدة كقوله : فذبحوها وما كادوا يفعلون .

والرابع : التفصيل في النفي بين المضارع والماضي ، فنفي المضارع نفي ، ونفي الماضي إثبات ، يدل على الأول قوله : " لم يكد يراها " مع أنه لم ير شيئا ، ويدل على الثاني قوله : " فذبحوها وما كادوا يفعلون " مع أنهم فعلوا .

والخامس : أنها في النفي تكون للإثبات إذا كان ما بعدها متصلا بما قبلها ومتعلقا به ، كقولك : ما كدت أصل إلى مكة حتى طفت بالبيت الحرام ، ومنه قوله تعالى : فذبحوها وما كادوا يفعلون .

لفظ " جعل "

تأتي " جعل " في القرآن لعدة معان :

أحدها : بمعنى " سمى " كقوله تعالى : الذين جعلوا القرآن عضين ، أي سموه كذبا ، وقوله : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، على قول ، ويشهد له قوله تعالى : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى .

الثاني : بمعنى " أوجد " وتتعدى إلى مفعول واحد ، والفرق بينها وبين الخلق ، أن الخلق فيه معنى التقدير ، ويكون عن عدم سابق حيث لا يتقدم مادة ولا سبب محسوس ، بخلاف الجعل بمعنى الإيجاد ، قال تعالى : الحمد لله الذي خلق [ ص: 204 ] السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور . وإنما الظلمات والنور تنشأ عن أجرام توجد بوجودها ، وتعدم بعدمها .

الثالث : بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير ، فتتعدى إلى مفعولين : إما حسا كقوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا ، وإما عقلا كقوله : أجعل الآلهة إلها واحدا .

الرابع : بمعنى الاعتقاد ، كقوله تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن .

الخامس : بمعنى الحكم بالشيء على الشيء ، حقا كان أو باطلا ، فالحق ، كقوله تعالى : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، والباطل ، كقوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية