الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 481 ] قوله عز وجل:

وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين

هذا نفي قول من قال من قريش: "إن محمدا صلى الله عليه وسلم يفتري القرآن وينسبه إلى الله تعالى"، وعبر عن ذلك بهذه الألفاظ التي تتضمن تشنيع قولهم وإعظام الأمر كما قال تعالى: وما كان لنبي أن يغل ، وكما قال حكاية عن عيسى عليه السلام: ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق وغير هذا مما يعطي المعنى والقرائن والبراهين استحالته.

و"يفترى" معناه: يختلق وينشأ، وكأن المرء يفريه من حديثه أي يقطعه ويسمه سمة، فهو مشتق من "فريت" إذا قطعت لإصلاح، و"تصديق" نصب على المصدر، والعامل فيه فعل مضمر، وقال الزجاج : هو خبر كان مضمرة، والتقدير: ولكن كان تصديق الذي بين يديه، وقوله: الذي بين يديه يريد: التوراة والإنجيل، والذي بين اليد هو المتقدم للشيء، وقالت فرقة في هذه الآية: إن الذي بين يديه هي أشراط الساعة وما يأتي من الأمور.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا خطأ، والأمر بالعكس، كتاب الله تبارك وتعالى بين يدي تلك، أما أن الزجاج تحفظ فقال: "الضمير يعود على الأشراط، والتقدير: ولكن تصديق الذي بين يدي القرآن". فهذا أيضا قلق، وقيام البرهان على قريش حينئذ إنما كان في أن يصدق القرآن ما في التوراة والإنجيل مع أن الآتي بالقرآن ممن يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا هي في بلده ولا في قومه، وتفصيل الكتاب هو تبيينه، و لا ريب فيه يريد: هو في نفسه على هذه الحالة، وإن ارتاب مبطل فذلك لا يلتفت إليه.

وقوله تعالى: أم يقولون افتراه الآية، "أم" هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام [ ص: 482 ] التي في قولك: أزيد قام أم عمرو ؟، وإنما هي التي تتوسط الكلام، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة "الألف" و"بل" لأنها تتضمن استفهاما وإضرابا عما تقدم، وهي كقولهم: "إنها لإبل أم شاء؟"، وقالت فرقة في "أم" هذه: هي بمنزلة ألف الاستفهام، ثم عجزهم في قوله: قل فأتوا بسورة مثله ، والسورة مأخوذة من "سورة البناء"، وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن: إحداهما: النظم والرصف والإيجاز والجزالة، كل ذلك في التعريف بالحقائق، والأخرى: المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

هذا قول جماعة من المتكلمين، وفيه عندي نظر، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب ردا على قولهم: "افتراه"؟، وما وقع التحدي في الآيتين: -هذه وآية العشر السور- إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق، وما ألزموا قط إتيانا بغيب، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله: وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، وكقوله: لتدخلن المسجد الحرام ، ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك، وأما التحدي بالنظم فبين أيضا أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود حتى كمل القرآن على هذا النظام، الأولى فالأولى، والبشر -مع أن يفرض أفصح العالم- محقوق بنسيان وجهل بالألفاظ والحق، وبغلط وآفات بشرية. فمحال أن يمشي في اختياره على الأولى فالأولى، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته -وهي الحوليات- يبدل فيها ويقدم ويؤخر، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح. ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى، [ ص: 483 ] وميزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها، وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره، كفعل الفرزدق في أبيات جرير ، والجارية في شعر الأعشى، وقول الأعرابي في عرفجكم، فقطع، ونحو ذلك مما إذا تتبع بان. والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين: اطراد النظم والسرد، وتحصيل المعاني وتركيب الكثير منها في اللفظ القليل، فأما مثل قوله تعالى: مدهامتان ، وقوله: ثم نظر فلا يصح التحدي بالإتيان بمثله، لكن بانتظامه واتصاله يقع العجز عنه.

وقوله: مثله صفة للسورة، والضمير عائد على القرآن المتقدم الذكر، كأنه قال: فأتوا بسورة مثل القرآن، أي: في معانيه وألفاظه، وخلطت فرق في قوله: مثله من جهة اللسان، كقول الطبري : ذلك على المعنى، ولو كان على اللفظ لقال: "مثلها" ، وهذا وهم بين لا يحتاج إليه، وقرأ عمرو بن فائد: "بسورة مثله" على الإضافة، قال أبو الفتح: التقدير: بسورة كلام مثله، قال أبو حاتم : أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر رضي الله عنه عن إضافة "سورة" أو تنوينها، فقال له عمر : كيف شئت.

وقوله: وادعوا من استطعتم إحالة على شركائهم وجنهم وغير ذلك، وهو كقوله في الآية الأخرى: لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أي معينا، وهذا أشد إقامة لنفوسهم وأوضح تعجيزا لهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية