الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7603 ) مسألة ; قال : ومن غل من الغنيمة ، حرق رحله كله ، إلا المصحف ، وما فيه روح الغال : هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ، فلا يطلع الإمام عليه ، ولا يضعه مع الغنيمة ، فحكمه أن يحرق رحله كله . وبهذا قال الحسن ، وفقهاء الشام ، منهم مكحول ، والأوزاعي ، والوليد بن هشام ، ويزيد بن يزيد بن جابر . وأتي سعيد بن عبد الملك بغال ، فجمع ماله وأحرقه ، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك ، فلم يعبه . وقال يزيد بن يزيد بن جابر : السنة في الذي يغل ، أن يحرق رحله .

                                                                                                                                            رواهما سعيد ، في سننه . وقال ومالك ، والليث ، والشافعي ، وأصحاب الرأي : لا يحرق ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق } ، فإن عبد الله بن عمرو روى ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة ، أمر بلالا فنادى في الناس ، فيجيئون بغنائمهم ، فيخمسه ، ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر ، فقال : يا رسول الله ، هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة . فقال : سمعت بلالا نادى ثلاثا ؟ . قال : نعم قال فما منعك أن تجيء به ؟ . فاعتذر ، فقال : كن أنت تجيء به يوم القيامة ، فلن أقبله منك } . أخرجه أبو داود .

                                                                                                                                            ولأن إحراق المتاع إضاعة له ، وقد { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . } ولنا ; ما روى صالح بن محمد بن زرارة ، قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم ، فأتي برجل قد غل ، فسأل سالما عنه ، فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا وجدتم الرجل قد غل ، فاحرقوا متاعه ، واضربوه } . قال فوجدنا في متاعه مصحفا ، فسأل سالما عنه ، فقال : بعه ، وتصدق بثمنه . أخرجه سعيد ، وأبو داود ، والأثرم .

                                                                                                                                            وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال } . فأما حديثهم ، [ ص: 246 ] فلا حجة لهم فيه ، فإن الرجل لم يعترف أنه أخذ ما أخذه على سبيل الغلول ، ولا أخذه لنفسه ، وإنما توانى في المجيء به ، وليس الخلاف فيه ، ولأن الرجل جاء به من عند نفسه تائبا معتذرا ، والتوبة تجب ما قبلها ، وتمحو الحوبة .

                                                                                                                                            وأما النهي عن إضاعة المال ، فإنما نهي عنه إذا لم تكن فيه مصلحة ، فأما إذا كان فيه مصلحة ، فلا بأس به ، ولا يعد تضييعا ، كإلقاء المتاع في البحر إذا خيف الغرق ، وقطع يد العبد السارق ، مع أن المال لا تكاد المصلحة تحصل به إلا بذهابه ، فأكله إتلافه ، وإنفاقه إذهابه ، ولا يعد شيء من ذلك تضييعا ولا إفسادا ، ولا ينهى عنه . وأما المصحف ، فلا يحرق ; لحرمته ، ولما تقدم من قول سالم فيه ، والحيوان لا يحرق ; { لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بالنار إلا ربها } ، ولحرمة الحيوان في نفسه ، ولأنه لا يدخل في اسم المتاع المأمور بإحراقه . وهذا لا خلاف فيه . ولا تحرق آلة الدابة أيضا .

                                                                                                                                            نص عليه أحمد ; لأنه يحتاج إليها للانتفاع بها ، ولأنها تابعة لما يحرق ، فأشبه جلد المصحف وكيسه . وقال الأوزاعي : يحرق سرجه وإكافه . ولنا ، أنه ملبوس حيوان ، فلا يحرق ، كثياب الغال . ولا تحرق ثياب الغال التي عليه ; لأنه لا يجوز تركه عريانا ، ولا ما غل ; لأنه من غنيمة المسلمين . قيل لأحمد : فالذي أصاب في الغلول ، أي شيء يصنع به ؟ قال : يرفع إلى المغنم .

                                                                                                                                            وكذلك قال الأوزاعي . ولا سلاحه ; لأنه يحتاج إليه للقتال ، ولا نفقته ; لأن ذلك مما لا يحرق عادة ، وجميع ذلك ، أو ما أبقت النار من حديد أو غيره ، فهو لصاحبه ; لأن ملكه كان ثابتا عليه ، ولم يوجد ما يزيله ، وإنما عوقب بإحراق متاعه ، فما لم يحترق يبقى على ما كان . ويحتمل أن يباع المصحف ، ويتصدق به ; لقول سالم فيه .

                                                                                                                                            وإن كان معه شيء من كتب الحديث أو العلم ، فينبغي أن لا تحرق أيضا ; لأن نفع ذلك يعود إلى الدين ، وليس المقصود الإضرار به في دينه ، وإنما القصد الإضرار به في شيء من دنياه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية