الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 56 ] 663 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لبني النضير لما أمر بإجلائهم من المدينة عند قولهم له : إن لنا ديونا لم تحل : " ضعوا وتعجلوا "

4277 - حدثنا عبد السلام بن أحمد بن سهيل البصري أبو بكر إملاء من أصله ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، حدثنا محمد بن علي بن يزيد بن ركانة ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاءه ناس منهم ، فقالوا : يا نبي الله ، إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضعوا وتعجلوا .

[ ص: 57 ] قال أبو جعفر : وبنو النضير هؤلاء هم أشراف اليهود ، وكانوا ينزلون المدينة .

4278 - كما حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم - قال الربيع : حدثنا شعيب بن الليث ، وقال محمد : أنبأني أبي وشعيب - عن الليث بن سعد ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فناداهم : " يا معشر يهود ، أسلموا تسلموا " فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك أريد ، أسلموا تسلموا " ، قالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، قال : " ذاكم أريد " ، ثم قالها الثالثة ، فقال : " اعلموا أن الأرض لله ولرسوله ، وإني أريد إخراجكم من هذه الأرض ، فمن وجد منكم بماله [ ص: 58 ] شيئا فليبعه ، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله .

قال أبو جعفر : وهم الذين كانت نساء الأنصار في الجاهلية إذا أردن أن يهودن من أولادهن من يردن تهويده منهم هودوه فيهم .

4279 - كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله عز وجل : لا إكراه في الدين قال : كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد ، فتحلف في الجاهلية : لئن عاش لها ولد لتهودنه ، فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار ، فقالت الأنصار : يا رسول الله ، أبناؤنا ! فأنزل الله عز وجل : لا إكراه في الدين ، قال سعيد : فمن [ ص: 59 ] شاء لحق بهم ، ومن شاء دخل في الإسلام .

4280 - وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله عز وجل : لا إكراه في الدين ، قال : نزلت هذه الآية في الأنصار خاصة ، قلت : خاصة ؟ قال : خاصة ، قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت مقلاتا تنذر إن ولدت ولدا تجعله في اليهود تلتمس بذلك طول بقائه ، فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت بنو النضير قالوا : يا رسول الله ، أبناؤنا وإخواننا منهم ، قال : [ ص: 60 ] فسكت عنهم ، فأنزل الله تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خيروا أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم ، قال : فأجلوهم معهم .

فاختلف شعبة وأبو عوانة على أبي بشر في إسناد هذا الحديث ; فتجاوز به شعبة سعيد بن جبير إلى ابن عباس ، وأوقفه أبو عوانة على سعيد بن جبير .

قال أبو جعفر : وهم خلاف يهود خيبر الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملهم عليها بشطر ما تخرج نخلها وأرضها ، وأقاموا فيها على ذلك حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه منها على ما ذكرنا في ذلك من المزارعة بشطر ما تخرج الأرض فيما قد تقدم منا في كتابنا هذا . ثم تأملنا الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب ، فوجدنا إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني النضير ، عند إجلائه إياهم أن يضعوا بعض ديونهم الآجلة ، ويتعجلوا بقيتها ، وكان هذا الباب مما قد اختلف أهل العلم فيه ، فأجازه بعضهم ، منهم عبد الله بن عباس . [ ص: 61 ]

كما حدثنا أحمد بن الحسين الكوفي قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : [ عن ] عمرو ، عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يقول : عجل لي ، وأضع عنك .

وكرهه بعضهم ، وهو عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت .

كما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب أن مالكا أخبره ، عن عثمان بن حفص بن عمر بن خلدة ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل دين إلى أجل فيضع عنه صاحب الحق ، ويعجل له الآخر ، فكره ذلك عبد الله بن عمر ، ونهى عنه .

وكما حدثنا يونس قال : أنبأنا ابن وهب أن مالكا أخبره ، عن أبي [ ص: 62 ] الزناد ، عن بسر بن سعيد ، عن عبيد أبي صالح مولى السفاح أنه قال : بعت بزا لي من أهل دار نخلة ومن أهل السوق إلى أجل ، ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني ، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت ، فقال : لا آمرك أن تأكل من ذلك ولا أن توكله .

وكما حدثنا أحمد بن الحسن أنه سمع سفيان يقول : أبو الزناد ، عن بسر بن سعيد ، عن زيد بن ثابت أنه سئل ، عن ذلك فكرهه ، وقال : لا تأكله ولا توكله ، ولم يذكر أحمد في حديثه عبيدا أبا صالح .

وكما حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، حدثنا عبد الله بن وهب ، [ ص: 63 ] حدثنا سليمان بن بلال ، حدثنا جعفر يعني ابن محمد ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا سأله فقال : إن لي دينا على رجل إلى أجل ، فأردت أن أضع عنه ويعجل الدين لي ، فقال عبد الله : لا تفعل .

فقال قائل : أفتجعلون حديث ابن عباس الذي ذكرتموه في أول هذا الباب حجة لمن أجاز المعنى المذكور فيه على من كرهه ؟

فكان جوابنا له في ذلك أنه لا حجة فيه عندنا لمن ذهب إلى إطلاق ذلك على من ذهب إلى كراهته ; لأنه قد يجوز أن يكون كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منه من ذلك قبل تحريم الله عز وجل الربا ، ثم حرم الربا بعد ذلك فحرمت أسبابه ، وهذه مسألة في الفقه جليلة المقدار منه ، يجب أن تتأمل حتى يوقف على الوجه فيها إن شاء الله ، وهي حطيطة البعض من الدين المؤجل ، ليكون سببا لتعجيل بقيته ، فكره ذلك من كرهه ممن ذكرنا ، وأطلقه من سواه ممن وصفنا .

وكان الأصل في ذلك أن الأمر لو جرى في ذلك بين من هو له وبين من هو عليه بالوضع والتعجيل على أن كل واحد منهما مشروط في صاحبه ، كان واضحا أن ذلك لا يجوز ، وأنه كالربا الذي جاء القرآن بتحريمه وبوعيد الله عز وجل عليه ، وهو أن الجاهلية كانوا يدفعون إلى من لهم عليهم الدين العاجل ما يدفعونه إليهم من أموالهم حتى يؤخروا عنهم [ ص: 64 ] ذلك الدين العاجل إلى أجل يذكرونه في ذلك التأخير ، فيكونون بذلك مشترين أجلا بمال ، فحرم الله ذلك ، وأوعد عليه الوعيد الذي جاء به القرآن ، فكان مثل ذلك وضع بعض الدين المؤجل لتعجيل بقيته في أن لا يجوز ذلك ، لأنه ابتياع التعجيل بما يتعجل منه بإسقاط بقية الدين الذي سقط منه ، فهذا واضح أنه لا يجوز ، وممن كان يذهب إلى ذلك من أهل العلم أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد .

كما حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا علي بن معبد ، أنبأنا محمد بن الحسن حدثنا يعقوب ، عن أبي حنيفة بما ذكرنا ولم يحك بينهم في ذلك خلافا .

وكما حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب ، عن مالك بهذا المعنى أيضا .

وممن كان يذهب إلى خلاف ذلك زفر بن الهذيل .

كما حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي ، حدثنا الحسن بن زياد قال : قال زفر في رجل له على رجل ألف درهم إلى سنة من ثمن متاع أو ضمان فصالحه منها على خمس مائة نقدا : إن ذلك جائز .

وقد كان الشافعي رحمه الله قد أجاز ذلك مرة كما ذكره لنا المزني عنه ، قال : ولو عجل المكاتب لمولاه بعض الكتابة على أن يبرئه من الباقي لم يجز ، ورد عليه ما أخذ ، ولم يعتق ; لأنه أبرأه مما لم يبرأ منه ، قال المزني : قد قال في هذا الموضع : ضع وتعجل لا يجوز [ ص: 65 ] وأجازه في الدين .

قال أبو جعفر : وأما إذا كان ذلك الوضع والتعجيل ليس واحد منهما مشروطا في صاحبه ، ولكنه على وضع مرجو به التعجيل لبقية الدين ، فذلك بخلاف الباب الأول ، ولا يجوز في المعقول إبطاله بالحكم ، ولكنه مكروه غير محكوم بإبطاله ، كما يكره القرض الذي يجر منفعة ، ولا يحكم بإبطاله لذلك ، فهذا وجه هذا الباب بإيقاع الصلح على اشتراط التعجيل في الوضع ، وفي الوضع المرجو به تعجيل بقية الدين بغير اشتراط له في ذلك الوضع . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية