الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 66 ] 664 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن إخافة الأنفس بالدين

4281 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا عبد الله بن وهب قال : سمعت حيوة بن شريح يحدث عن بكر بن عمرو ، عن شعيب بن زرعة ، عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : لا تخيفوا أنفسكم " ، أو قال : " الأنفس ، فقيل : يا رسول الله ، بم نخيف أنفسنا ؟ قال : " الدين .

4282 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا حيوة ، ثم ذكر بإسناده مثله .

4283 - حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا عبد [ ص: 67 ] الله بن لهيعة ، حدثنا بكر بن عمرو ، عن شعيب بن زرعة ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها ، قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " الدين .

4284 - وحدثنا فهد ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أنبأنا نافع بن يزيد ، حدثنا بكر بن عمرو ، حدثني شعيب بن زرعة أنه سمع عقبة بن عامر يقول : .... ثم ذكر مثل حديث يونس ، عن ابن وهب ، عن حيوة ، عن بكر الذي ذكرناه في هذا الباب .

قال أبو جعفر : فتأملنا هذا الحديث لنقف على المراد به ما هو إن شاء الله ؟ فوجدنا النهي الذي فيه مقصودا به إلى إخافة الأنفس بالديون ، وكان معقولا أنه لا يخيف الأنفس إلا ما غلب عليها حتى صارت بذلك خائفة منه ، وكان ذلك كمثل ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث .

4285 - كما قد حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري ، عن حديج بن صومى الحميري ، [ ص: 68 ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الغفلة في ثلاث : الغفلة عن ذكر الله عز وجل ، ومن لدن أن يصلي صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ، وأن يغفل الرجل عن نفسه في الدين حتى يركبه .

وكان ما كان من الديون التي لا تركب من هي عليه العمل في خلاصه منها ، وبراءته منها إلى أهلها بخلاف الديون التي يغفل من هي عليه ، عن براءته منها ، والخروج منها إلى أهلها ، فمن كان من أهل هذه المنزلة الثانية كان مذموما ، وكان مخيفا لنفسه من الدين الذي عليه سوء العاقبة في الدنيا بسوء المطالبة ، وفي الآخرة بما هو أغلظ من ذلك .

فأما ما كان من الدين الذي هو عليه على الحال الأولى من هاتين الحالتين ، فغير خائف على نفسه ما يخافه على نفسه من كان على الحال الأخرى في الدين الذي عليه ، بل من كان على الحال المحمودة من هاتين الحالتين في الدين الذي عليه مرجوا له الثواب [ ص: 69 ] فيما هو عليه من ذلك ، والعون من الله عز وجل إياه على ما هو عليه فيه ، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه .

4286 - مما أنبأناه إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا وهب بن جرير بن حازم ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم استدانت ، فقيل لها : يا أم المؤمنين ، تستدينين وليس عندك وفاء ! قالت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل .

4287 - ومما حدثناه أحمد بن شعيب ، أنبأنا محمد بن قدامة ، أنبأنا جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، عن زياد بن عمرو بن هند ، عن عمران بن حذيفة قال : كانت ميمونة تدان فتكثر ، فقال لها أهلها في ذلك ولاموها ، ووجدوا [ ص: 70 ] عليها ، فقالت : لا أترك الدين وقد سمعت خليلي وصفيي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما أحد يدان دينا يعلم الله عز وجل أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عز وجل عنه في الدنيا .

4288 - وما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا أبو داود ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني ، عن محمد بن علي أن عائشة رضي الله عنها كانت تدان ، فقيل لها : ما لك وللدين ؟ ! فقالت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد ينوي قضاء دينه إلا كان له من الله عز وجل عون ، فأنا ألتمس ذلك العون .

[ ص: 71 ]

4289 - وما قد حدثنا محمد بن إبراهيم بن يحيى بن حماد ، حدثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي ، حدثنا طلحة بن سحاج قال : حدثتني ورقاء بنت هراب ، قالت : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى الصبح يمر على أبواب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فرأى على باب عائشة رجلا جالسا ، فقال : ما لي أراك جالسا هاهنا ؟ قال : دين لي أطلب به أم المؤمنين ، فبعث إليها عمر : يا أم المؤمنين ، أما لك [ ص: 72 ] في سبعة آلاف درهم أبعث بها إليك في كل سنة كفاية ؟ فقالت : بلى ، ولكن علينا فيها حقوق ، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من ادان دينا ينوي قضاءه كان معه من الله عز وجل حارس فأنا أحب أن يكون معي من الله عز وجل حارس .

قال أبو جعفر : والعون من الله عز وجل والحارس لا يكونان لمن عليه دين إلا وأحواله فيه تلك الأحوال المحمودة في الحالين اللتين ذكرناهما .

ومما يبيح أيضا الاستدانة على النية المحمودة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرناه مما تقدم منا في كتابنا هذا في باب من مات لا يشرك بالله شيئا ، من قوله لأبي ذر : " ما أحب أن لي أحدا ذهبا يأتي علي ليلة وعندي منه دينار ، إلا دينار أرصده لدين " ، فكان ذلك ما قد دل على أنه قد كان صلى الله عليه وسلم يدان .

ومن ذلك أيضا ما قد روي عنه في رهنه درعه بالدين الذي كان عليه لليهودي الذي كان له عليه ذلك الدين . وسنذكر ذلك وما قد [ ص: 73 ] روي فيه فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله عز وجل .

ففي ذلك ما قد دل على إباحة الاستدانة مع النية لقضاء ما يستدان ، أو على ترك الغفلة عن المستدين في ذلك حتى يركبه ذلك الدين فيعيده إلى الأحوال المذمومة في الدنيا ، كما قد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

مما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا عبد الله بن داود الخريبي ، عن قريش بن حيان ، عن ابن عبد الرحمن ، عن أبيه وهو عمر بن عبد الرحمن بن دلاف ، قال : قال عمر رضي الله عنه : لا تنظروا إلى صلاة امرئ ولا إلى صيامه ، ولكن انظروا إلى صدقه إذا حدث ، وإلى أمانته إذا اؤتمن ، وإلى ورعه إذا أشفى ، ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة ، رضي من دينه وأمانته أن يقال : سبق الحاج فادان معرضا ، فأصبح قد رين به ، فمن كان له عليه دين فليحضر بيع ماله أو قسمة ماله ، ألا إن الدين أوله هم وآخره حزن .

[ ص: 74 ] [ ص: 75 ] وذكر لنا علي بن عبد العزيز قال : قال لنا أبو عبيد : قال أبو زيد : فادان معرضا يعني : استدان معرضا ، وهو الذي يعترض الناس ، فيستدين من كل من يمكنه ، قال أبو زيد : وقوله : قد رين به ، أي وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ، وفيما لا قبل له به .

قال أبو جعفر : وهذا الدين أيضا الذي ذمه الفاروق رضي الله عنه ، هو الدين الذي تستعمل فيه الغفلة عن خوف عواقبه ، وترك التحفظ منها حتى يعود من هو عليه إلى الأحوال المذمومة التي نزل مثلها بالأسيفع ، والتي عسى أن يكون عواقبها في الآخرة أغلظ من ذلك ، نعوذ بالله عز وجل منها ، وإياه نسأل التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية