الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7686 ) مسألة ; قال : ( ومن نقض العهد ، بمخالفة شيء مما صولحوا عليه ، حل دمه وماله ) وجملة ذلك ، أنه ينبغي للإمام عند عقد الهدنة أن يشترط عليهم شروطا ، نحو ما شرطه عمر ، رضي الله عنه .

                                                                                                                                            وقد رويت عن عمر رضي الله عنه ، في ذلك أخبار ، منها ما رواه الخلال ، بإسناده عن إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا غير واحد من أهل العلم ، قالوا : كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم : إنا حين قدمنا من بلادنا ، طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا ، على أنا شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ، ولا فيما حولها ديرا ، ولا قلاية ، ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ، ولا ما كان منها في خطط المسلمين ، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا ، وأن لا نكتم أمر من غش المسلمين ، وأن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ، ولا نظهر عليها صليبا ، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ، ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين ، وألا نخرج باعوثا ولا شعانين ، ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين ، وأن لا نجاورهم بالخنازير ، ولا نبيع الخمور ، ولا نظهر شركا ، ولا نرغب في ديننا ، ولا ندعو إليه أحدا ، ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين ، وأن لا نمنع أحدا من أقربائنا إذا أراد الدخول في الإسلام وأن نلزم زينا حيثما كنا ، وأن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا في مواكبهم ، ولا نتكلم بكلامهم ، وإن لا نتكنى بكناهم ، وأن نجز مقادم رءوسنا ، ولا نفرق نواصينا ، ونشد الزنانير على أوساطنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نركب السروج ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ، ولا نتقلد السيوف ، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ، ونرشد الطريق ، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ، ولا نطلع عليهم في منازلهم ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة ، إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة ، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ، ونطعمه من أوسط ما نجد ، ضمنا ذلك على أنفسنا ، وذرارينا ، وأزواجنا ومساكننا ، وإن نحن غيرنا ، أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا ، وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا ، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق . فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب لهم عمر : أن أمض لهم ما سألوه ، وألحق فيه حرفين ، اشترط عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم أن لا يشتروا من سبايانا شيئا ، ومن ضرب مسلما عمدا ، فقد خلع عهده . فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط . فهذه جملة شروط عمر رضي الله عنه فإذا صولحوا عليها ، ثم نقض بعضهم شيئا منها ، فظاهر كلام الخرقي أن عهده ينتقض به .

                                                                                                                                            وهو ظاهر ما رويناه ; لقولهم في الكتاب : إن نحن [ ص: 283 ] خالفنا ، فقد حل لك منا ما يحل لك من أهل المعاندة والشقاق . وقال عمر : ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده .

                                                                                                                                            ولأنه عقد بشرط فمتى لم يوجد الشرط ، زال حكم العقد ، كما لو امتنع من التزام الأحكام . وذكر القاضي ، والشريف أبو جعفر ، أن الشروط قسمان ; أحدهما ينتقض العهد بمخالفته ، وهو أحد عشر شيئا ; الامتناع من بذل الجزية ، وجري أحكامنا عليهم إذا حكم بها حاكم ، والاجتماع على قتال المسلمين ، والزنى بمسلمة وإصابتها باسم نكاح ، وفتن مسلم عن دينه ، وقطع الطريق عليه ، وقتله ، وإيواء جاسوس المشركين ، والمعاونة على المسلمين بدلالة المشركين على عوراتهم أو مكاتبتهم ، وذكر الله تعالى أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء ، فالخصلتان الأوليان ينتقض العهد بهما بلا خلاف في المذهب . وهو مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين أو مع أهل الحرب ; لأن إطلاق الأمان يقتضي ذلك ، فإذا فعلوه نقضوا الأمان ; لأنهم إذا قاتلونا ، لزمنا قتالهم ، وذلك ضد الأمان ، وسائر الخصال فيها روايتان ; إحداهما ، أن العهد ينتقض بها ، سواء شرط عليهم ذلك أو لم يشترط . وظاهر مذهب الشافعي قريب من هذا . إلا أن ما لم يشترط عليهم ، لا ينتقض العهد بتركه ، ما خلا الخصال الثلاث الأولى ، فإنه يتعين شرطها ، وينتقض العهد بتركها بكل حال .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الإمام على وجه لا يتعذر معه أخذ الجزية منهم . ولنا ، مع ما ذكرناه ، ما روي أن عمر رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا ، فقال : ما على هذا صالحناكم . وأمر به فصلب في بيت المقدس . ولأن فيه ضررا على المسلمين ، فأشبه الامتناع من بذل الجزية . وكل موضع قلنا : لا ينتقض عهده . فإنه إن فعل ما فيه حد أقيم عليه حده أو قصاصه ، وإن لم يوجب حدا ، عزر ويفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله .

                                                                                                                                            فإن أراد أحد منهم فعل ذلك كف عنه ، فإن مانع بالقتال نقض عهده . ومن حكمنا بنقض عهده منهم ، خير الإمام فيه بين أربعة أشياء ; القتل ، والاسترقاق ، والفداء ، والمن ، كالأسير الحربي ; لأنه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير عهد ولا عقد ، ولا شبهة ذلك ، فأشبه اللص الحربي . ويختص ذلك به دون ذريته ; لأن النقض إنما وجد منه دونهم ، فاختص به ، كما لو أتى ما يوجب حدا أو تعزيرا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية