الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

اصطلح الأئمة على أن لأنواع الوقف والابتداء أسماء ، واختلفوا في ذلك :

فقال ابن الأنباري : الوقف على ثلاثة أوجه : تام ، وحسن ، وقبيح :

فالتام : الذي يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده ، ولا يكون بعده ما يتعلق به ، كقوله : وأولئك هم المفلحون [ البقرة : 5 ] وقوله : أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ البقرة : 6 ] .

والحسن : هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده كقوله : الحمد لله ; لأن الابتداء ب رب العالمين [ الفاتحة : 2 ] لا يحسن لكونه صفة لما قبله .

[ ص: 280 ] والقبيح : هو الذي ليس بتام ولا حسن كالوقف على بسم من قوله بسم الله .

قال : ولا يتم الوقف على المضاف دون المضاف إليه ، ولا المنعوت دون نعته ، ولا الرافع دون مرفوعه وعكسه ، ولا الناصب دون منصوبه وعكسه ، ولا المؤكد دون توكيده ، ولا المعطوف دون المعطوف عليه ، ولا البدل دون مبدله ، ولا ( إن ) أو ( كان ) أو ( ظن ) وأخواتها دون اسمها ، ولا اسمها دون خبرها ، ولا المستثنى منه دون الاستثناء ، ولا الموصول دون صلته اسميا أو حرفيا ، ولا الفعل دون مصدره ، ولا الحرف دون متعلقه ، ولا شرط دون جزائه .

وقال غيره : الوقف ينقسم إلى أربعة أقسام : تام مختار ، وكاف جائز ، وحسن مفهوم ، وقبيح متروك .

فالتام : هو الذي لا يتعلق بشيء مما بعده ، فيحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده ; وأكثر ما يوجد عند رءوس الآي غالبا كقوله : وأولئك هم المفلحون .

وقد يوجد في أثنائها كقوله وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، هنا التمام ; لأنه انقضى كلام بلقيس ، ثم قال تعالى : وكذلك يفعلون [ النمل : 34 ] .

وكذلك لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني [ الفرقان : 29 ] هنا التمام ، لأنه انقضى كلام الظالم أبي بن خلف ، ثم قال تعالى وكان الشيطان للإنسان خذولا .

وقد يوجد بعدها ، كقوله مصبحين وبالليل [ الصافات : 137 - 138 ] . هنا التمام لأنه معطوف على المعنى ، أي : بالصبح وبالليل .

ومثله يتكئون وزخرفا [ الزخرف : 34 - 35 ] رأس الآية يتكئون و وزخرفا هو التمام لأنه معطوف على ما قبله .

وآخر كل قصة وما قبل أولها ، وآخر كل سورة ، وقبل : ياء النداء ، وفعل الأمر ، والقسم ولامه ، دون القول والشرط ما لم يتقدم جوابه ، و ( كان الله ) و ( ما كان ) و ( لولا ) و ( لولا ) غالبهن تام ما لم يتقدمهن قسم أو قول أو ما في معناه .

والكافي : منقطع في اللفظ متعلق في المعنى ، فيحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده أيضا ، نحو : حرمت عليكم أمهاتكم [ النساء : 23 ] هنا الوقف ويبتدأ بما بعد ذلك ، [ ص: 281 ] وهكذا كل رأس آية بعدها ( لام كي ) و ( إلا ) بمعنى ( لكن ) و ( إن ) الشديدة المكسورة والاستفهام و ( بل ) و ( ألا ) المخففة و ( السين ) و ( سوف ) للتهديد ، و ( نعم ) و ( بئس ) و ( كيلا ) ما لم يتقدمهن قول أو قسم .

والحسن : هو الذي يحسن الوقف عليه ، ولا يحسن الابتداء بما بعده نحو : الحمد لله رب العالمين .

والقبيح : هو الذي لا يفهم منه المراد ، ك الحمد ، وأقبح منه الوقف على لقد كفر الذين قالوا ويبتدئ إن الله هو المسيح [ المائدة : 17 ] ; لأن المعنى مستحيل بهذا الابتداء ، ومن تعمده وقصد معناه فقد كفر .

ومثله في الوقف فبهت الذي كفر والله [ البقرة : 258 ] فلها النصف ولأبويه [ النساء : 11 ] .

وأقبح من هذا الوقف على المنفي دون حرف الإيجاب من نحو : لا إله . . . إلا الله [ محمد : 19 ] . وما أرسلناك . . . إلا مبشرا ونذيرا [ الإسراء : 105 ] فإن اضطر لأجل التنفس جاز ، ثم يرجع إلى ما قبله حتى يصله بما بعده ، ولا حرج . انتهى .

وقال السجاوندي : الوقف على خمس مراتب : لازم ومطلق وجائز ومجوز لوجه ومرخص ضرورة .

1 - فاللازم : ما لو وصل طرفاه غير المراد نحو قوله : وما هم بمؤمنين [ البقرة : 8 ] يلزم الوقف هنا ، إذ لو وصل بقوله : يخادعون الله [ البقرة : 9 ] توهم أن الجملة صفة لقوله : بمؤمنين فانتفى الخداع عنهم ، وتقرر الإيمان خالصا عن الخداع ، كما تقول ما هو بمؤمن مخادع والقصد في الآية إثبات الخداع بعد نفي الإيمان .

وكما في قوله : لا ذلول تثير الأرض [ البقرة : 171 ] فإن جملة ( تثير ) صفة ل ( ذلول ) داخلة في حيز النفي ، أي : ليست ذلولا مثيرة للأرض .

ونحو : سبحانه أن يكون له ولد [ النساء : 171 ] ، فلو وصلها بقوله له ما في السماوات وما في الأرض لأوهم أنه صفة لولد ، وأن المنفي ولد موصوف بأن له ما في السماوات ; والمراد نفي الولد مطلقا .

2 - والمطلق : ما يحسن الابتداء بما بعده :

كالاسم المبتدأ به نحو : الله يجتبي [ الشورى : 13 ] .

[ ص: 282 ] والفعل المستأنف نحو : يعبدونني لا يشركون بي شيئا [ النور : 55 ] و سيقول السفهاء [ البقرة : 142 ] ، و سيجعل الله بعد عسر يسرا [ الطلاق : 7 ] .

ومفعول المحذوف نحو : وعد الله [ النساء : 122 ] ، سنة الله [ الأحزاب : 38 ] والشرط نحو : من يشأ الله يضلله [ الأنعام : 39 ] .

والاستفهام ولو مقدرا : نحو : أتريدون أن تهدوا [ النساء : 88 ] تريدون عرض الدنيا [ الأنفال : 67 ] .

والنفي ما كان لهم الخيرة [ القصص : 68 ] إن يريدون إلا فرارا [ الأحزاب : 13 ] حيث لم يكن كل ذلك مقولا لقول سابق .

3 - والجائز : ما يجوز فيه الوصل والفصل لتجاذب الموجبين من الطرفين ، نحو : وما أنزل من قبلك [ البقرة : 4 ] فإن واو العطف تقتضي الوصل ، وتقديم المفعول على الفعل يقطع النظم ; فإن التقدير : ( ويوقنون بالآخرة ) .

4 - والمجوز لوجه : نحو : أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة [ البقرة : 86 ] ; لأن الفاء في قوله : فلا يخفف عنهم [ البقرة : 86 ] تقتضي التسبب والجزاء ، وذلك يوجب الوصل ، وكون لفظ الفعل على الاستئناف يجعل للفصل وجها .

5 - والمرخص ضرورة : ما لا يستغني ما بعده عما قبله ، لكنه يرخص لانقطاع النفس وطول الكلام ، ولا يلزمه الوصل بالعود ; لأن ما بعده جملة مفهومة ، كقوله : والسماء بناء [ البقرة : 22 ] ; لأن قوله : وأنزل [ البقرة : 22 ] لا يستغني عن سياق الكلام ; فإن فاعله ضمير يعود إلى ما قبله ، غير أن الجملة مفهومة .

وأما ما لا يجوز الوقف عليه : فكالشرط دون جزائه ، والمبتدأ دون خبره ونحو ذلك .

وقال غيره : الوقف في التنزيل على ثمانية أضرب : تام ، وشبيه به ، وناقص ، وشبيه به ، وحسن وشبيه به ، وقبيح ، وشبيه به .

وقال ابن الجزري : أكثر ما ذكر الناس في أقسام الوقف غير منضبط ، ولا منحصر وأقرب ما قلته في ضبطه : أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري ; لأن الكلام إما أن يتم أو لا ، فإن تم كان اختياريا ، وكونه تاما لا يخلو :

إما ألا يكون له تعلق بما بعده البتة - أي : لا من جهة اللفظ ، ولا من جهة المعنى - فهو الوقف المسمى بالتام لتمامه المطلق ، يوقف عليه ويبدأ بما بعده ، ثم مثله بما تقدم في التام .

[ ص: 283 ] قال : وقد يكون الوقف تاما في تفسير وإعراب وقراءة غير تام على آخر .

نحو : وما يعلم تأويله إلا الله [ آل عمران : 7 ] تام : إن كان ما بعده مستأنفا ، غير تام : إن كان معطوفا .

ونحو فواتح السور : الوقف عليها تام إن أعربت مبتدأ والخبر محذوف أو عكسه ، أي : الم هذه ، أو هذه الم ، أو مفعولا ب ( قل ) مقدرا . غير تام : إن كان ما بعدها هو الخبر .

ونحو : مثابة للناس وأمنا [ البقرة : 125 ] تام على قراءة ( واتخذوا ) بكسر الخاء ، كاف على قراءة الفتح .

ونحو : إلى صراط العزيز الحميد [ إبراهيم : 1 ] تام على قراءة من رفع الاسم الكريم بعدها ، حسن على قراءة من خفض .

وقد يتفاضل التام ، نحو : مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين [ الفاتحة : 4 - 5 ] كلاهما تام ; إلا أن الأول أتم من الثاني ; لاشتراك الثاني فيما بعده في معنى الخطاب ; بخلاف الأول .

وهذا هو الذي سماه بعضهم شبيها بالتام .

ومنه ما يتأكد استحبابه لبيان المعنى المقصود به ، وهو الذي سماه السجاوندي باللازم . وإن كان له تعلق ، فلا يخلو إما أن يكون من جهة المعنى فقط ، وهو المسمى بالكافي للاكتفاء به واستغنائه عما بعده واستغناء ما بعده عنه كقوله : ومما رزقناهم ينفقون [ البقرة : 3 ] وقوله وما أنزل من قبلك [ البقرة : 4 ] ، وقوله : على هدى من ربهم [ البقرة : 5 ] .

أو يتفاضل في الكفاية كتفاضل التمام ، نحو : في قلوبهم مرض كاف فزادهم الله مرضا أكفى منه ، بما كانوا يكذبون [ البقرة : 10 ] أكفى منهما .

وقد يكون الوقف كافيا على تفسير وإعراب وقراءة غير كاف على آخر ، نحو : قوله : يعلمون الناس السحر [ البقرة : 102 ] كاف إن جعلت ( ما ) بعده نافية ، حسن إن فسرت موصولة .

وبالآخرة هم يوقنون [ البقرة : 4 ] كاف إن أعرب ما بعده مبتدأ خبره على هدى [ البقرة : 5 ] حسن إن جعل خبر الذين يؤمنون بالغيب [ البقرة : 3 ] أو خبر والذين يؤمنون بما أنزل [ البقرة : 4 ] .

ونحن له مخلصون [ البقرة : 139 ] كاف على قراءة أم تقولون [ البقرة : 140 ] بالخطاب حسن على قراءة الغيب .

يحاسبكم به الله كاف على قراءة من رفع ( فيغفر ) و ( ويعذب ) [ البقرة : 284 ] حسن على قراءة من جزم .

[ ص: 284 ] وإن كان التعلق من جهة اللفظ : فهو المسمى بالحسن ; لأنه في نفسه حسن مفيد يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده ، للتعلق اللفظي إلا أن يكون رأس آية ، فإنه يجوز في اختيار أكثر أهل الأداء ; لمجيئه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة الآتي .

وقد يكون الوقف حسنا على تقدير ، وكافيا أو تاما على آخر ، نحو : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] حسن إن جعل ما بعده نعتا ، كاف إن جعل خبرا مقدما ، أو مفعولا مقدرا على القطع ، تام إن جعل مبتدأ خبره : أولئك .

وإن لم يتم الكلام : كان الوقف عليه اضطراريا ، وهو المسمى بالقبيح ، لا يجوز تعمد الوقف عليه إلا لضرورة ، من انقطاع نفس ونحوه ، لعدم الفائدة أو لفساد المعنى ، نحو : صراط الذين [ الفاتحة : 7 ] .

وقد يكون بعضه أقبح من بعض ، نحو : فلها النصف ولأبويه [ النساء : 11 ] لإيهامه أنهما مع البنت شركاء في النصف .

وأقبح منه نحو : إن الله لا يستحيي [ البقرة : 26 ] فويل للمصلين [ الماعون : 4 ] . لا تقربوا الصلاة [ النساء : 43 ] فهذا حكم الوقف اختياريا واضطراريا .

وأما الابتداء فلا يكون إلا اختياريا ;لأنه ليس كالوقف تدعو إليه ضرورة ، فلا يجوز إلا بمستقل بالمعنى موف بالمقصود وهو في أقسامه كأقسام الوقف الأربعة ، ويتفاوت تماما وكفاية وحسنا وقبحا ، بحسب التمام وعدمه ، وفساد المعنى وإحالته ، نحو : الوقف على : ومن الناس [ البقرة : 8 ] ; فإن الابتداء ب ( الناس ) قبيح ، و ( آمنا ) تام ; فلو وقف على ( من ) كان الابتداء ب ( يقول ) أحسن من ابتدائه ب ( من ) .

وكذا الوقف على ختم الله [ البقرة : 7 ] قبيح ، والابتداء ب " الله " أقبح وب " ختم " كاف .

والوقف على : عزير ابن الله و المسيح ابن الله [ التوبة : 30 ] قبيح والابتداء بابن أقبح ، وبعزير ، والمسيح أشد قبحا .

ولو وقف على ما وعدنا الله [ الأحزاب : 12 ] ضرورة كان الابتداء بالجلالة قبيحا ، وب وعدنا أقبح منه وب ما أقبح منهما .

وقد يكون الوقف حسنا والابتداء به قبيحا نحو : يخرجون الرسول وإياكم [ الممتحنة : 1 ] الوقف عليه حسن والابتداء به قبيح لفساد المعنى إذ يصير تحذيرا من الإيمان بالله .

[ ص: 285 ] وقد يكون الوقف قبيحا والابتداء جيدا ، نحو : من بعثنا من مرقدنا هذا [ يس : 52 ] الوقف على هذا قبيح لفصله بين المبتدأ وخبره ، ولأنه يوهم أن الإشارة إلى المرقد ، والابتداء بهذا كاف أو تام لاستئنافه .

التالي السابق


الخدمات العلمية