الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
الاعتبار والمتابعات والشواهد

171 - الاعتبار سبرك الحديث هل شارك راو غيره فيما حمل      172 - عن شيخه فإن يكن شورك من
معتبر به فتابع وإن      173 - شورك شيخه ففوق فكذا
وقد يسمى شاهدا ثم إذا      174 - متن بمعناه أتى فالشاهد
وما خلا عن كل ذا مفارد      175 - مثاله : " لو أخذوا إهابها "
فلفظة الدباغ ما أتى بها      176 - عن عمرو إلا ابن عيينة وقد
توبع عمرو في الدباغ فاعتضد      177 - ثم وجدنا : " أيما إهاب "
فكان فيه شاهدا في الباب

.

لما انتهى الشاذ والمنكر المجتمعان في الانفراد ، أردفا ببيان الطريق المبين للانفراد وعدمه ، ولكنه لو أخر عن الأفراد والغريب الآتيين ، كان أنسب .

[ التعريف بالاعتبار ] : و ( الاعتبار سبرك ) بفتح المهملة ثم موحدة ساكنة ، أي [ ص: 256 ] : اختبارك ونظرك ( الحديث ) من الدواوين المبوبة والمسندة وغيرهما ، كالمعاجم ، والمشيخات والفوائد ، لتنظر ( هل شارك ) راويه الذي يظن تفرده به ( راو غيره ) أو فقل : هل شارك راو من رواته غيره .

( فيما حمل عن شيخه ) سواء اتفقا في رواية ذاك الحديث بلفظه عن شيخ واحد أم لا ؟ فبان أن الاعتبار ليس قسيما لما معه كما قد توهمه الترجمة ، بل هو الهيئة الحاصلة في الكشف عنهما ، وكأنه أريد شرح الألفاظ الثلاثة ; لوقوعها في كلام أئمتهم .

[ حقيقة الشاهد والمتابع ] ( فإن يكن ) ذاك الراوي ( شورك من ) راو ( معتبر به ) بأن لم يتهم بكذب وضعف ، إما بسوء حفظه أو غلطه ، أو نحو ذلك ، حسب ما يجيء إيضاحه في مراتب الجرح والتعديل ، أو ممن فوقه في الوصف من باب أولى ( فـ ) هو ( تابع ) حقيقة ، وهي المتابعة التامة إن اتفقا في رجال السند كلهم .

( وإن شورك شيخه ) في روايته له عن شيخه ( ففوق ) بضم القاف مبنيا ; أي : أو شورك من فوق شيخه إلى آخر السند واحدا واحدا حتى الصحابي ، ( فكذا ) أي : فهو تابع أيضا ، ولكنه في ذلك قاصر عن مشاركته هو ، وكلما بعد فيه المتابع كان أنقص .

( وقد يسمى ) أي : كل واحد من المتابع لشيخه فمن فوقه ( شاهدا ) ، ولكن تسميته تابعا أكثر .

( ثم ) بعد فقد المتابعات على الوجه المشروح ( إذا متن ) آخر في الباب إما عن ذاك الصحابي أو غيره ( بمعناه أتى فهو الشاهد ) ، وأفهم اختصاص التابع باللفظ ; سواء كان من رواية ذلك الصحابي أم غيره .

وقد حكاه شيخنا مع اختصاص الشاهد بالمعنى كذلك عن قوم - يعني كالبيهقي ومن وافقه - ولكنه رجح أنه لا اقتصار في التابع على اللفظ ، ولا في [ ص: 257 ] الشاهد على المعنى ، وأن افتراقهما بالصحابي فقط ، فكل ما جاء عن ذاك الصحابي فتابع أو عن غيره فشاهد .

قال : وقد تطلق المتابعة على الشاهد وبالعكس ، والأمر فيه سهل ، ويستفاد من ذلك كله التقوية .

( وما خلا عن كل ذا ) أي : المذكور من تابع وشاهد فهو ( مفارد ) أي : أفراد ، وينقسم بعد ذلك لقسمي المنكر والشاذ كما تقرر ، وممن صرح بما تقدم في كيفية الاعتبار ابن حبان ; حيث قال : مثاله أن يروي حماد بن سلمة حديثا لم يتابع عليه عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

فينظر هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين ؟ فإن وجد علم أن للخبر أصلا يرجع إليه ، وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة ، وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأي ذلك وجد يعلم به أن للحديث أصلا يرجع إليه ، وإلا فلا . انتهى .

وكما أنه لا انحصار للمتابعات في الثقة ، كذلك الشواهد ، ولذا قال ابن الصلاح : واعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده ، بل يكون معدودا في الضعفاء ، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد ، وليس كل ضعيف يصلح لذلك .

ولهذا يقول الدارقطني وغيره : فلان يعتبر به ، وفلان لا يعتبر به .

قال النووي في شرح مسلم : " وإنما يفعلون هذا - أي إدخال الضعفاء في المتابعات والشواهد - لكون المتابع لا اعتماد عليه ، وإنما الاعتماد على من قبله " . انتهى .

ولا انحصار له في هذا ، بل قد يكون كل من المتابع والمتابع لا اعتماد عليه ; فباجتماعهما تحصل القوة .

[ ص: 258 ] [ أمثلة التابع والشاهد ] ( مثاله ) أي : المذكور من التابع والشاهد ( لو أخذوا إهابها ، فدبغوه فانتفعوا به ) المروي عند مسلم والنسائي من طريق سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاة ميمونة من الصدقة ، فقال وذكره .

( فلفظة الدباغ ) فيه ( ما أتى بها عن عمرو ) من أصحابه ( إلا ابن عيينة ) بالصرف للضرورة ، فإنه انفرد بها ولم يتابع عليها .

( وقد توبع ) شيخه ( عمرو ) عن عطاء ( في الدباغ ) ، فأخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق ابن وهب ، عن أسامة بن زيد الليثي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل شاة ماتت : " الأ نزعتم إهابها ، فدبغتموه فانتفعتم به .

قال البيهقي : وهكذا رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء ، وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن عطاء ، فهذه متابعات لابن عيينة في شيخ شيخه ( فاعتضد ) بها .

( ثم وجدنا ) من رواية عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس مرفوعا : ( أيما إهاب - بكسر الهمزة ، أي : جلد دبغ - فقد طهر ) . أخرجه مسلم ، وأصحاب السنن ، ولفظ مسلم : ( إذا دبغ الإهاب . . . . ) .

( فكان فيه ) لكونه بمعنى حديث ابن عيينة ، ( شاهدا في الباب ) أي : عند من لا يعتبر فيه أن يكون عن صحابي آخر ، بل يكتفى بالمعنى .

[ ص: 259 ] وأما من يقصر الشاهد على الآتي من حديث صحابي آخر ، وهم الجمهور ، فعندهم أن رواية ابن وعلة هذه متابعة لعطاء ، ولهذا عدل شيخنا عن التمثيل به ، ومثل بحديث فيه المتابعة التامة ، والقاصرة ، والشاهد باللفظ ، والشاهد بالمعنى جميعا ، وهو ما رواه الشافعي في الأم عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم ، فأكملوا العدة ثلاثين ; فإنه في جميع الموطآت عن مالك بهذا السند بلفظ : فإن غم عليكم ، فاقدروا له .

وأشار البيهقي إلى أن الشافعي تفرد بهذا اللفظ عن مالك ، فنظرنا فإذا البخاري قد روى الحديث في صحيحه فقال : ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، ثنا مالك به بلفظ الشافعي سواء ، فهذه متابعة تامة في غاية الصحة لرواية الشافعي ، والعجب من البيهقي كيف خفيت عليه ، ودل هذا على أن مالكا رواه عن عبد الله بن دينار باللفظين معا .

وقد توبع فيه عبد الله بن دينار من وجهين عن ابن عمر : أحدهما أخرجه مسلم ، من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فذكر الحديث ، وفي آخره : فإن غمي عليكم ، فاقدروا ثلاثين .

والثاني : أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عاصم بن محمد بن زيد ، [ ص: 260 ] عن أبيه ، عن جده ابن عمر بلفظ : فإن غم عليكم ، فكملوا ثلاثين . فهذه متابعة أيضا لكنها ناقصة ، وله شاهدان : أحدهما : من حديث أبي هريرة رواه البخاري عن آدم ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، ولفظه : فإن غمي عليكم ، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين .

وثانيهما : من حديث ابن عباس أخرجه النسائي من رواية عمرو بن دينار ، عن محمد بن حنين ، عن ابن عباس بلفظ حديث ابن دينار عن ابن عمر سواء . انتهى .

وقد ذكرت من أمثلته في الحاشية غير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية