الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 206 ] 679 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله فيما تصدق به على بريرة فأهدته إلى عائشة : " هو عليها صدقة ، ولنا هدية "

4387 - حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب قال : وأخبرني مالك ، عن ربيعة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها قالت : كان في بريرة ثلاث سنن ، فكانت إحدى السنن الثلاث أنها أعتقت ، فخيرت في زوجها ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن أعتق ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم ، فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم أر برمة فيها لحم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة ، وأنت لا تأكل الصدقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو عليها صدقة ، وهو لنا منها هدية .

[ ص: 207 ]

4388 - وحدثنا محمد بن أحمد الجواربي ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : أهدت بريرة إلى النبي [ ص: 208 ] صلى الله عليه وسلم لحما تصدق به عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو لنا هدية ، وعليها صدقة .

قال أبو جعفر : وفي هذا الباب أحاديث سوى هذه ، قد أتينا ببعضها فيما تقدم منا في هذه الأبواب ، ومما سنأتي بها في بقية هذه الأبواب . وهذا عندنا - والله أعلم - لأن تلك الصدقة خرجت من ملك من تصدق بها على بريرة إلى ملك بريرة إياها ، وخرجت بعد ذلك من ملكها إياها إلى ملك من أهدتها إليه ممن تحرم عليه الصدقة إما لنسبه ، وإما لما سوى ذلك من يساره ، وكانت له حلالا ; إذ كان إنما ملكها بالهدية لا بالصدقة .

وقد استدل قوم بهذا على إباحة الهاشمي العمل على الصدقة والاجتعال منها ، وإن كانت الصدقة عليه حراما ; لأنه يأخذ ما يأخذ بعمله عليها لا بصدقة أهلها به عليه ، وممن قال ذلك منهم : أبو يوسف ، وكره ذلك آخرون ; لأن الصدقة إنما تخرج من ملك ربها إلى مستحقيها ، وفيهم العاملون عليها ، فإذا كانت لا تحل لهم لم يحل لهم أن يأخذوها جعلا على عملهم عليها ، لأنهم يأخذون ما هو حرام عليهم .

[ ص: 209 ] فقال قائل : فقد رأينا الغني جائزا له أن يعمل عليها ، وأن يأخذ عمالته منها ، ولم تحرم عليه بخروجها من ملك المتصدق بها إلى ملكه ، قال : فمثل ذلك ذو النسب الذي تحرم عليه الصدقة بنسبه في عمله على الصدقة ، وفي أخذه ما يأخذه منها بعمالته عليها ، كذلك أيضا لا تحرم عليه وإن كان إنما يخرج من ملك المتصدق بها إلى ملكه .

فكان جوابنا له في ذلك أنا لو خلينا والقياس لكان هو ما قد ذكر ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منه في ذلك ما قد دل على خلاف هذا المعنى .

4389 - كما قد حدثنا أبو أمية ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبد الله بن أبي رزين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قلت للعباس : سل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملك على الصدقات ، فسأله ، فقال : ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس .

[ ص: 210 ] فعقلنا بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كره للعباس استعماله على الصدقة لرفعته إياه أن يكون عاملا على غسالة ذنوب الناس ، لا لما سوى ذلك من حلها له لو عمل عليها .

ومثل ذلك ما قد روي عنه في أبي رافع للولاء الذي له في بني هاشم .

4390 - كما قد حدثنا بكار بن قتيبة وإبراهيم بن مرزوق قالا : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع : اصحبني كيما تصيب منها ، فقال : حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله ، فأتاه فسأله ، فقال : إن آل محمد لا تحل لهم الصدقة ، وإن مولى القوم من أنفسهم .

[ ص: 211 ]

4391 - وكما حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ورقاء بن عمر ، عن عطاء بن السائب قال : دخلت على أم كلثوم ابنة علي ، فقالت : إن مولى لنا يقال له : هرمز أو كيسان ، أخبرني أنه مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فدعاني فجئت ، فقال : يا فلان ، إنا أهل بيت لا نأكل الصدقة ، وإن مولى القوم من أنفسهم ، فلا تأكل الصدقة .

[ ص: 212 ]

4392 - وكما حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا نعيم ، حدثنا ابن المبارك ، أنبأنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أم كلثوم ، عن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له : ميمون أو مهران أنه قال : يا ميمون - أو مهران - إنا أهل بيت نهينا عن الصدقة ، وإن موالينا من أنفسنا ، فلا تأكل الصدقة .

وقد عقلنا في حديث أبي رافع الذي قد رويناه في هذا الباب أنه لم يرد به في اتباع المخزومي الوالي على الصدقة أن يصيب منها إلا [ ص: 213 ] ما يكون عمالة له لا لما سوى ذلك منها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ما قال له فيه ، وكان ذلك عندنا - والله أعلم - كما قال مثله للعباس لما سأله أن يستعمله على الصدقة التي هي غسالة ذنوب الناس ، لا على أنهم لو عملوا عليها لم يحرم عليهم ما يأخذونه منها بعمالتهم عليها ، كما لا يحرم ذلك على الغني إذا عمل عليها بالغنى الذي يحرم به عليه مثلها ، فهذا وجه هذه الآثار ، والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية