الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب رفع اليدين عن سالم عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع وقال سفيان مرة : وإذا رفع رأسه ، وأكثر ما كان يقول : وبعد ما يرفع رأسه من الركوع ولا يرفع بين السجدتين وروى ابن خزيمة عن ابن عيينة قال هذا مثل الأسطوانة وعن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال : أي إسناد صحيح أصح من هذا ؟ ولم يقل البخاري : بين السجدتين ، وقال فلا يفعل ذلك في السجود وفي رواية له حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود وفي رواية لمسلم ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود وقال الدارقطني في غرائب مالك إن قول بندار " بين السجدتين " وهم وقول ابن سنان " في السجود " أصح ، وفي رواية للبخاري وإذا قام من الركعتين رفع يديه ، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وللطبراني كان يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع وإذا سجد ولابن ماجه من حديث أبي هريرة وحين يركع وحين يسجد ولأبي داود وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك وله من حديث وائل وإذا رفع رأسه من السجود وللنسائي من حديث مالك بن الحويرث وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود ولأحمد من حديث وائل كلما كبر ورفع ووضع وبين السجدتين ولابن ماجه من حديث عمير بن حبيب مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة وللطحاوي من حديث ابن عمر كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود وبين السجدتين وذكر الطحاوي أن هذه الرواية شاذة وصححها ابن القطان وللدارقطني في العلل من حديث أبي هريرة يرفع يديه في كل خفض ورفع وقال : الصحيح يكبر وصحح ابن حزم وابن القطان حديث الرفع في كل خفض ورفع وأعله الجمهور والله أعلم .

                                                            واعلم أنه قد روي رفع اليدين من حديث خمسين من الصحابة منهم العشرة .

                                                            [ ص: 252 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 252 ] باب رفع اليدين عن سالم عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى تحاذي منكبيه وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع وقال سفيان مرة وإذا رفع رأسه وأكثر ما كان يقول وبعدما يرفع رأسه من الركوع ولا يرفع بين السجدتين (فيه) فوائد .

                                                            (الأولى) فيه رفع اليدين في هذه المواطن الثلاثة عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه وبه قال أكثر العلماء من السلف والخلف قال ابن المنذر روينا ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن الزبير وأنس بن مالك .

                                                            وقال الحسن البصري كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم إذا كبروا وإذا ركعوا وإذا رفعوا رءوسهم من الركوع كأنها المراويح وروي ذلك عن جماعة من التابعين وجماعة ممن بعدهم وقال الأوزاعي ما اجتمع عليه علماء الحجاز والشام والبصرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في هذه المواطن الثلاثة قال ابن المنذر وهو قول [ ص: 253 ] الليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وحكاه ابن وهب عن مالك وبه نقول . انتهى .

                                                            وقد حكاه عن مالك أيضا أبو مصعب وأشهب والوليد بن مسلم وسعيد بن أبي مريم وجزم به الترمذي عن مالك وقال البخاري يروى عن عدة من أهل الحجاز والعراق والشام والبصرة واليمن أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع ورفع الرأس منه منهم سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والقاسم بن محمد وسالم وعمر بن عبد العزيز والنعمان بن أبي عياش والحسن وابن سيرين وطاوس ومكحول وعبد الله بن دينار ونافع وعبيد الله بن عمر والحسن بن مسلم وقيس بن سعد وغيرهم عدة كثيرة انتهى .

                                                            قال البيهقي وقد رويناه عن أبي قلابة وأبي الزبير ثم عن مالك والأوزاعي والليث وابن عيينة ثم عن الشافعي ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك [ ص: 254 ] ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي وعدة كثيرة من أهل الآثار بالبلدان وقالت طائفة لا يرفع يديه فيما سوى الافتتاح ، وهو قول سفيان وأبي حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي وهو رواية ابن القاسم عن مالك قال ابن عبد البر وتعلق بهذه الرواية عن مالك أكثر المالكيين .

                                                            وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة وهو المشهور عند أصحاب مالك والمعمول به عند المتأخرين منهم انتهى . وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم لم يرو أحد عن مالك مثل رواية ابن القاسم في رفع اليدين قال محمد والذي آخذ به أن أرفع على حديث ابن عمر وروى ابن أبي شيبة في مصنفه الرفع في تكبيرة الإحرام فقط عن علي وابن مسعود والأسود وعلقمة والشعبي وإبراهيم النخعي وخيثمة وقيس بن أبي حازم وأبي إسحاق السبيعي .

                                                            وحكاه عن أصحاب علي وابن مسعود وحكاه الطحاوي عن عمر ، وذكر ابن بطال أنه لم يختلف عنه في ذلك وهو عجيب فإن المعروف عنه الرفع في المواطن الثلاثة وقال أبو العباس القرطبي بعد أن ذكر أن هذا هو مشهور مذهب مالك أن الرفع في المواطن الثلاثة هو آخر أقواله وأصحها .

                                                            والمعروف من عمل الصحابة ومذهب كافة العلماء إلا من [ ص: 255 ] ذكر انتهى .

                                                            وكذا قال الخطابي إنه قول مالك في آخر أمره وقال محمد بن نصر المروزي لا يعلم مصرا من الأمصار تركوا بأجمعهم رفع اليدين عند الخفض والرفع في الصلاة إلا أهل الكوفة فكلهم لا يرفع إلا في الإحرام وقال ابن عبد البر : لم يرو عن أحد من الصحابة ترك الرفع عند كل خفض ورفع ممن لم يختلف عنه فيه إلا ابن مسعود وحده .

                                                            وروى الكوفيون عن علي مثل ذلك وروى المدنيون عنه الرفع من حديث عبيد الله بن أبي رافع انتهى .

                                                            وذكر عثمان بن سعيد الدارمي أن الطريق عن علي في ترك الرفع واهية وقال الشافعي في رواية الزعفراني عنه ولا يثبت عن علي وابن مسعود ولو كان ثابتا عنهما لا يثبته أن يكون رآهما مرة أغفلا رفع اليدين ولو قال قائل : ذهب عنهما حفظ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه ابن عمر لكانت له الحجة انتهى .

                                                            وروى البيهقي في سننه عن وكيع قال صليت في مسجد الكوفة فإذا أبو حنيفة قائم يصلي وابن المبارك إلى جنبه يصلي فإذا عبد الله يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع وأبو حنيفة لا يرفع فلما فرغوا من الصلاة قال أبو حنيفة لعبد الله يا أبا عبد الرحمن رأيتك تكثر رفع اليدين أردت أن تطير فقال له عبد الله يا أبا حنيفة قد رأيتك ترفع يديك حين افتتحت الصلاة فأردت أن تطير فسكت أبو حنيفة قال وكيع : ما رأيت جوابا أحضر من جواب عبد الله لأبي حنيفة .

                                                            وروى البيهقي أيضا عن سفيان بن عيينة قال اجتمع الأوزاعي والثوري بمنى فقال الأوزاعي للثوري : لم لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه ؟ . فقال الثوري حدثنا يزيد بن أبي زياد فقال الأوزاعي أروي لك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارضني بيزيد بن أبي زياد ويزيد رجل ضعيف الحديث وحديثه مخالف للسنة قال فاحمار وجه سفيان فقال الأوزاعي كأنك كرهت ما قلت قال الثوري نعم فقال الأوزاعي قم بنا إلى المقام نلتعن أينا على الحق قال فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد .



                                                            (الثانية) الذي دل عليه الحديث فعل الرفع في المواطن الثلاثة ولا دلالة له على وجوب ذلك ولا استحبابه فإن الفعل محتمل لهما والأكثرون على الاستحباب وقيل بالوجوب وسنوضح ذلك .

                                                            قال النووي في شرح مسلم أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند [ ص: 256 ] تكبيرة الإحرام واختلفوا فيما سواها انتهى .

                                                            وفي حكاية هذا الإجماع نظر من وجهين ، أحدهما : أن بعض العلماء يقول بوجوبه وقد قال النووي بعد ذلك بأسطر أجمعوا أنه لا يجب شيء من الرفع وحكي عن داود إيجابه عند تكبيرة الإحرام وبهذا قال الإمام أبو الحسن أحمد بن سيار السياري من أصحابنا أصحاب الوجوه انتهى .

                                                            (قلت) وحكاه القاضي حسين من أصحابنا في تعليقه عن أحمد بن حنبل وقال ابن عبد البر كل من رأى الرفع وعمل به من العلماء لا يبطل صلاة من لم يرفع إلا الحميدي وبعض أصحاب داود ورواية عن الأوزاعي ثم حكي عن الأوزاعي أنه ذكر الرفع في المواطن الثلاثة فقيل له فإن نقص من ذلك ؟ قال ذلك نقص من صلاته ثم قال ابن عبد البر وقول الحميدي ومن تابعه شذوذ عن الجمهور وخطأ لا يلتفت إليه أهل العلم انتهى .

                                                            وحكى الطحاوي إيجابه عند الركوع والرفع منه والقيام من السنن عن قوم واعترضه البيهقي وقال لا نعلم أحدا يوجب الرفع وحكى صاحب المفهم عن بعضهم وجوب الرفع كله وقال ابن حزم في المحلى : ورفع اليدين للتكبير من الإحرام في أول الصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به ثم قال وقد روي ذلك عن الأوزاعي وهو قول بعض من تقدم من أصحابنا انتهى .

                                                            وقد ثبت بذلك وجود الخلاف في وجوب الرفع في تكبيرة الإحرام بل في وجوب الرفع كله والله أعلم .

                                                            (ثانيهما) أن بعضهم لا يستحب الرفع عند تكبيرة الإحرام وهو رواية عن مالك حكاها عنه ابن شعبان وابن خويز منداد وابن القصار ولهذا حكى ابن عبد البر الإجماع على جواز الرفع عند تكبيرة الإحرام وكأنه عدل عن حكاية الإجماع على الاستحباب إلى الجواز لهذه القولة لكنها رواية شاذة لا معول عليها والله أعلم .



                                                            (الثالثة) قوله إذا افتتح الصلاة رفع يديه ظاهره أنه إنما رفع يديه بعد فراغ التكبير ؛ لأن افتتاح الصلاة هو التكبير ولا أعلم أحدا قال به ويحتمل أن معناه أنه شرع في الرفع عند الشروع في التكبير فأتى بالرفع والتكبير مقترنين وهذا مذهب سنحكيه وحمل الحديث عليه أولى ، وفي رواية لأبي داود من حديث ابن عمر أيضا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر وهما كذلك وهي صريحة في تقديم [ ص: 257 ] رفع اليدين على التكبير وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ولأصحابنا فيها خمسة أوجه :

                                                            (أحدها) أنه يرفع غير مكبر ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين وينهيه مع انتهائه .

                                                            (والثاني) يرفع غير مكبر ثم يكبر ويداه قارتان ثم يرسلهما ويدل له رواية أبي داود المتقدم ذكرها وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أن هذا القول ينسب إلى رواية ابن عمر قال والرواية التي في الصحيحين ظاهرها مخالف له وكأن الشيخ رحمه الله لم يستحضر رواية أبي داود هذه التي ذكرناها .

                                                            (والثالث) يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير وينهيهما معا وصححه النووي في شرح المهذب والتحقيق وقال في شرح الوسيط المسمى بالتنقيح إنه الأصح وقول الجمهور ونص عليه الشافعي في الأم والرابع يبتدئهما معا وينهي التكبير مع انتهاء الإرسال .

                                                            (والخامس) يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير ولا استحباب في الانتهاء فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع أو بالعكس تمم الباقي وإن فرغ منهما حط يديه ولم يستدم الرفع وصححه النووي في بقية كتبه تبعا لنقل الرافعي له عن ترجيح الأكثرين وقال الغزالي في الوسيط قال المحققون : ليس هذا اختلافا بل صحت الروايات كلها فلنقبل الكل ولنجوزها على نسق واحد وتبع في ذلك الإمام فإنه حكى عن والده أن الكيفيات كلها على السواء وأقره عليه هذا تفصيل مذهبنا .

                                                            وقال ابن شاس في الجواهر وإذا شرع في التكبير رفع يديه معه على المعروف من المذهب وقال صاحب الهداية في شرحه لقوله في البداية ويرفع يديه مع التكبير : هذا اللفظ يشير إلى اشتراط المقارنة وهو المروي عن أبي يوسف والمحكي عن الطحاوي والأصح أنه يرفع أولا ثم يكبر ؛ لأن في فعله نفي الكبرياء عن غير الله ، والنفي مقدم انتهى .



                                                            (الرابعة) قوله حتى يحاذي منكبيه بالياء المثناة من تحت أوله أي النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يعود الضمير على الرفع المفهوم من قوله رفع أي حتى يحاذي الرفع منكبيه وفي حديث وائل بن حجر حتى حاذتا أذنيه وهو في سنن أبي داود وغيرها قال ابن المنذر واختلفوا في ذلك فأخذ بحديث ابن عمر الشافعي وأحمد وإسحاق وقال بحديث [ ص: 258 ] وائل ناس من أهل العلم .

                                                            وقال بعض أصحاب الحديث : المصلي بالخيار إن شاء رفع يديه إلى المنكبين وإن شاء إلى الأذنين قال ابن المنذر وهذا مذهب حسن وأنا إلى حديث ابن عمر أميل انتهى .

                                                            وأخذ بحديث وائل في ذلك سفيان الثوري والحنفية وقال البيهقي : فإذا اختلفت هذه الروايات فإما أن يؤخذ بالجميع فيخير بينهما وإما أن تترك رواية من اختلفت الرواية عليه ويؤخذ برواية من لم يختلف عليه يعني رواية الرفع إلى المنكبين قال الشافعي رحمه الله ؛ لأنها أثبت إسنادا وأنها حديث عدد والعدد أولى بالحفظ من واحد انتهى .

                                                            وقال ابن عبد البر اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية رفع اليدين في الصلاة فروي عنه أنه كان يرفع يديه ما فوق أذنيه مع رأسه وروي عنه أنه كان يرفع يديه حذو أذنيه وروي عنه أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه وروي عنه أنه كان يرفعهما إلى صدره وكلها آثار معروفة مشهورة وأثبت ما في ذلك حديث ابن عمر هذا وفيه حذو منكبيه وعليه جمهور التابعين وفقهاء الأمصار وأهل الحديث .

                                                            وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه في الإحرام حذو منكبيه وفي غير الإحرام دون ذلك قليلا وكل ذلك واسع حسن وابن عمر روى الحديث وهو أعلم بمخرجه وتأويله ، وكل ذلك معمول به عند العلماء انتهى .

                                                            وقال القاضي أبو بكر بن العربي في صفة الرفع ثلاثة أقوال :

                                                            قيل : حذو الصدر ، وقيل حذو المنكب ، وقيل حذو الأذن فأما حيال الصدر فليس بشيء وأما حيال المنكب والأذن فقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح والجمع بينهما أن تكون أطراف الأصابع بإزاء الأذنين وآخر الكف بإزاء المنكبين فذلك جمع بين الروايتين وقال النووي في شرح مسلم : المشهور من مذهبنا ومذهب الجماهير أنه يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه أي أعلى أذنيه وإبهاماه شحمتي أذنيه وراحتاه منكبيه فهذا معنى قولهم حذو منكبيه وبهذا جمع الشافعي رحمه الله بين روايات الحديث فاستحسن الناس ذلك منه وحكى الغزالي في الوجيز في قدر الرفع ثلاثة أقوال للشافعي :

                                                            (أحدها) أنه يرفع يديه إلى حذو المنكبين (والثاني) إلى أن تحاذي رءوس أصابعه أذنيه (والثالث) إلى [ ص: 259 ] أن تحاذي أطراف أصابعه أذنيه وإبهاماه شحمة أذنيه وكفاه منكبيه قال الرافعي : والمراد من القول الأول أن لا يجاوز بأصابعه منكبيه وكذا صرح به إمام الحرمين .

                                                            وأما الثاني فكان المراد من الأذن هو شحمته وأسافله لا أعلاه وإلا اتحد مع القول الثالث وظاهر المذهب القول الثالث ولم ينقل معظم الأصحاب في ذلك خلافا ولم أر حكاية الخلاف إلا لابن كج وإمام الحرمين لكنهما لم يذكرا إلا القول الأول والثالث فظهر تفرد الغزالي بما نقل من حكاية الأقوال الثلاثة انتهى .

                                                            وقال ابن شاس في الجواهر قال القاضي أبو محمد يرفع يديه إلى المنكبين لا إلى الأذنين واختار المتأخرون أن يحاذي بالكوع الصدر وبطرف الكف المنكب وبأطراف الأصابع الأذنين وهذا إنما يتهيأ إذا كانت يداه قائمتين ، رءوس أصابعهما مما يلي السماء وهو صفة العابد وقال سحنون يكونان مبسوطتين بطونهما مما يلي الأرض وظهورهما مما يلي السماء وهي صفة الراهب وقال الطحاوي إنما كان الرفع إلى المنكبين في حديث ابن عمر وقت كانت يداه في ثيابه بدليل قوله في حديث وائل بن حجر فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه وفيه ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس فكانوا يرفعون أيديهم فيه وأشار شريك إلى صدره انتهى .

                                                            واعترضه البيهقي بأنه قد ورد في حديث وائل الرفع إلى المنكبين أيضا وهو أولى لموافقته بقية الروايات قال : مع أنه قد يستطاع الرفع في الثياب إلى الأذنين وفي زعمه إلى المنكبين ولم يرفعهما في روايته إلا إلى صدره فكيف حمل سائر الأخبار على خبره وليس فيه ما حملها عليه ا هـ .



                                                            (الخامسة) قال أصحابنا الشافعية لا فرق في منتهى الرفع بين الرجل والمرأة وقال الحنفية يرفع الرجل إلى الأذنين والمرأة إلى المنكبين ؛ لأنه أستر لها وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أم الدرداء أنها كانت ترفع يديها حذو منكبيها وعن الزهري ترفع المرأة يديها حذو منكبيها وعن عطاء بن أبي رباح وحماد بن أبي سليمان أنهما قالا : ترفع المرأة يديها في الصلاة حذو ثدييها وعن حفصة بنت سيرين أنها رفعت يديها في الصلاة حذو ثدييها وقال عطاء بن أبي رباح إن للمرأة هيئة ليست للرجال وإن تركت ذلك [ ص: 260 ] فلا حرج .



                                                            (السادسة) قال النووي في شرح مسلم اختلفت عبارات العلماء في الحكمة في رفع اليدين فقال الشافعي رحمه الله فعلته إعظاما لله تعالى واتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال غيره : هو استكانة واستسلام وانقياد وكان الأسير إذا غلب مد يديه إعلاما باستسلامه وقيل : هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه وقيل : إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بكليته على صلاته ومناجاة ربه سبحانه وتعالى كما تضمن ذلك قوله : الله أكبر فتطابق فعله وقوله وقيل : إشارة إلى دخوله في الصلاة وهذا الأخير يختص بالرفع لتكبيرة الإحرام وقيل : غير ذلك وفي أكثرها نظر والله أعلم ا هـ . وهذا المعنى الأخير وهو الإشارة إلى دخوله في الصلاة قد ذكره الحنفية مع زيادة فيه وهو إعلام الأصم ونحوه بذلك وذكره أيضا المهلب من المالكية وذكر الحنفية أيضا في رفع اليدين معنى آخر وهو الإشارة إلى نفي الكبرياء عن غير الله تعالى وقال أبو العباس القرطبي قيل : فيه أقوال أنسبها مطابقة قوله : الله أكبر لفعله وقال ابن عبد البر معنى رفع اليدين عند الافتتاح وغيره خضوع واستكانة وابتهال وتعظيم لله عز وجل واتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال بعض العلماء : إنه من زينة الصلاة ثم حكي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها وعن النعمان بن أبي عياش قال كان يقال : لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي عند الافتتاح وحين تريد أن تركع وحين تريد أن ترفع وقال عقبة بن عامر له بكل إشارة عشر حسنات بكل أصبع حسنة . وروى البيهقي في سننه عن الربيع بن سليمان قال قلت للشافعي ما معنى رفع اليدين عند الركوع فقال : مثل معنى رفعهما عند الافتتاح تعظيم الله وسنة متبعة يرجى فيها ثواب الله عز وجل ومثل رفع اليدين على الصفا والمروة وغيرهما .



                                                            (السابعة) ذكر الإمام أحمد بن حنبل عن شيخه سفيان بن عيينة أن أكثر ما كان يقول في هذا الحديث وبعد ما يرفع رأسه من الركوع وأنه قال مرة وإذا رفع رأسه من الركوع والذي رواه غير الإمام أحمد عن ابن عيينة وإذا رفع رأسه من الركوع كذلك رواه مسلم في صحيحه عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وسعيد بن منصور [ ص: 261 ] وعمر والناقد وزهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نمير ورواه الترمذي عن قتيبة وابن أبي عمر والفضل بن الصباح البغدادي ورواه النسائي عن قتيبة ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد وهشام بن عمار وأبي عمر حفص بن عمر الضرير المقرئ كلهم وهم اثنا عشر عن ابن عيينة بلفظ وإذا رفع رأسه من الركوع ورواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم عن ابن عيينة بلفظ وبعد الركوع .

                                                            ومعنى الرواية المشهورة ، وإذا أراد الرفع أو إذا شرع فيه وبهذا قال أصحابنا فذكروا أن ابتداء رفع اليدين يكون مع ابتداء رفع الرأس ويدل له قوله في رواية لأبي داود ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتى يكونا حذو منكبيه فهي دالة على أن قوله رفع معناه أراد الرفع ويمكن أن ترد إليها رواية أحمد الأخرى بأن يكون معنى قوله وبعد ما يرفع رأسه من الركوع بعد ما يشرع في رفع رأسه فتتفق الروايات كلها على أن رفع اليدين مقارن لرفع الرأس من الركوع .



                                                            (الثامنة) قوله ولا يرفع بين السجدتين لفظ البخاري ولا يفعل ذلك في السجود وهو أعم لتناوله النزول للسجدة الأولى ورفع الرأس من السجدة الثانية ، وكذا قوله في لفظ آخر ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود وفي رواية لمسلم ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود ووهم بعضهم راوي اللفظ الأول وهو قوله بين السجدتين وصوب بقية الألفاظ لعمومها .

                                                            وقال الدارقطني في غرائب مالك إن قول بندار بين السجدتين وهم وقول ابن سنان في السجود أصح ويعارض هذه الألفاظ قوله في رواية للطبراني من حديث ابن عمر أيضا كان يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع وإذا سجد وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة وحين يركع وحين يسجد ولأبي داود وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك .

                                                            وله من حديث وائل وإذا رفع رأسه من السجود وللنسائي من حديث مالك بن الحويرث وإذا سجد وإذا رفع رأسه من سجوده . ولأحمد من حديث وائل كلما كبر ورفع ووضع وبين السجدتين ولابن ماجه من حديث عمير بن حبيب مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة وللطحاوي من حديث ابن عمر كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود [ ص: 262 ] وبين السجدتين وذكر الطحاوي أن هذه الرواية شاذة وصححها ابن القطان والدارقطني في العلل من حديث أبي هريرة يرفع يديه في كل خفض ورفع وقال الصحيح يكبر .

                                                            وصحح ابن حزم وابن القطان حديث الرفع في كل خفض ورفع وأعله الجمهور وقد ذكر والدي رحمه الله هذه الروايات كلها في الأصل في النسخة الكبرى .

                                                            فتمسك الأئمة الأربعة بالروايات التي فيها نفي الرفع في السجود لكونها أصح وضعفوا ما عارضها كما تقدم وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف وأخذ آخرون بالأحاديث التي فيها الرفع في كل خفض ورفع وصححوها وقالوا : هي مثبتة فهي مقدمة على النفي وبه قال ابن حزم الظاهري وقال : إن أحاديث رفع اليدين في كل خفض ورفع متواترة توجب يقين العلم ونقل هذا المذهب عن ابن عمر وابن عباس والحسن البصري وطاوس وابنه عبد الله ونافع مولى ابن عمر وأيوب السختياني وعطاء بن أبي رباح وقال به ابن المنذر وأبو علي الطبري من أصحابنا وهو قول عن مالك والشافعي فحكى ابن خويز منداد عن مالك رواية أنه يرفع في كل خفض ورفع وفي أواخر البويطي يرفع يديه في كل خفض ورفع وروى ابن أبي شيبة الرفع بين السجدتين عن أنس والحسن وابن سيرين .



                                                            (التاسعة) قد يستدل بقوله ولا يرفع بين السجدتين على أنه كان يرفع يديه في القيام من الركعتين ؛ لأنه لو اقتصر على الرفع في المواطن الثلاثة المتقدمة ذكرها لم يكن للنفي في السجود معنى لوجود النفي في غير السجود أيضا فدل النفي عن السجود على ثبوت الرفع في غير المواطن الثلاثة وما هو إلا القيام من الركعتين ويدل لذلك قوله في صحيح البخاري من رواية عبد الأعلى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر وإذا قام من الركعتين رفع يديه ويرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                            وقال أبو داود الصحيح قول ابن عمر ليس بمرفوع ورجح الدارقطني الرفع فقال : إنه أشبه بالصواب ويوافقه أيضا قوله في حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه [ ص: 263 ] حتى يحاذي بهما منكبيه كلما كبر عند افتتاح الصلاة .

                                                            رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وغيرهم وقال الخطابي هو حديث صحيح وقد قال به جماعة من أهل الحديث ولم يذكره الشافعي والقول به لازم على أصله في قبول الزيادات .

                                                            وحكى البيهقي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه كان إذا قام من الركعتين رفع يديه ثم قال بعد ذلك : ورفع اليدين عند القيام من الركعتين سنة وإن لم يذكره الشافعي فإن إسناده صحيح والزيادة من الثقة مقبولة ثم روي عن الشافعي قوله إذا وجدتم في كتابي بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت .

                                                            وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة : اقتصر الشافعي على الرفع في هذه الأماكن الثلاثة وقد ثبت الرفع عند القيام من الركعتين وقياس نظره أن يسن الرفع في ذلك المكان أيضا ؛ لأنه كما قال بإثبات الرفع في الركوع والرفع منه لكونه زائدا على من روى الرفع في التكبير ، قط وجب أيضا أن يثبت الرفع عند القيام من الركعتين ؛ لأنه زائد على من أثبت الرفع في هذه الأماكن الثلاثة والحجة واحدة في الموضعين

                                                            وأول راض ســــيرة مـــن يســـيرها

                                                            والصواب والله أعلم استحباب الرفع عند القيام من الركعتين لثبوته في الحديث ، أما كونه مذهبا للشافعي ؛ لأنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي أو ما هذا معناه ففي ذلك نظر انتهى .

                                                            وقولهم إن الشافعي لم يذكر الرفع عند القيام من الركعتين فيه نظر فإن الشافعي قال في حديث أبي حميد وبهذا نقول وفيه رفع اليدين إذا قام من الركعتين قال البيهقي في المعرفة : هو مذهب الشافعي لقوله وبه أقول ولقوله إذا صح الحديث فهو مذهبي ؛ ولذلك حكاه النووي عن نص الشافعي وقال : إنه الصحيح أو الصواب وأطنب في ذلك في شرح المهذب واعتمد البخاري رواية ابن عمر هذه وبوب عليها في صحيحه رفع اليدين إذا قام من الركعتين .

                                                            وقال ابن بطال : الرفع عند القيام زيادة في هذا الحديث على ما رواه ابن شهاب عن سالم فيه يجب قبولها لمن يقول بالرفع وليس في حديث ابن شهاب ما يدفعها بل فيه ما يثبتها وهو قوله وكان لا يفعل ذلك بين السجدتين فدليله أنه كان يفعلها في كل [ ص: 264 ] خفض ورفع ما عدا السجود وقال البخاري في كتاب رفع اليدين ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا قام من الركعتين كله صحيح ؛ لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة ويختلفون فيها مع أنه لا اختلاف في ذلك وإنما زاد بعضهم والزيادة مقبولة من الثقة .

                                                            (العاشرة) ما ذكره والدي رحمه الله في الأصل في النسخة الكبرى من أن رفع اليدين روي من حديث خمسين من الصحابة ذكره أيضا في شرح ألفيته فقال : وقد جمعت رواته فبلغوا نحو الخمسين لكن ابن عبد البر في التمهيد اقتصر على ثلاثة عشر والسلفي قال : رواه سبعة عشر ، ومن علم حجة على من لم يعلم ، وقوله إن منهم العشرة سبقه إليه غير واحد فقال البيهقي سمعت الحاكم أبا عبد الله محمد بن عبد الحافظ يقول : لا نعلم سنة اتفق على روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة ثم العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في البلاد الشاسعة غير هذه السنة قال البيهقي وهو كما قال أستاذنا أبو عبد الله وقال الشيخ تقي الدين في الإلمام جزمه ليس بجيد فإنما الجزم إنما يكون مع الصحة ولعله لا يصح عن جملة العشرة .

                                                            (قلت) ولذلك أتى والدي رحمه الله بصيغة التمريض فقال روي وممن ذكر أن حديث رفع اليدين رواه العشرة عبد الرحمن بن محمد بن منده في كتاب له سماه المستخرج من كتب الناس ، لكن في تخصيص الحاكم والبيهقي رواية العشرة بحديث رفع اليدين نظر فقد شاركه في ذلك حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ذكر غير واحد أنه رواه العشرة فحكى ابن الجوزي في مقدمة الموضوعات عن أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفراييني أنه ليس في الدنيا حديث اجتمع عليه العشرة غيره .

                                                            وحكى ابن الصلاح ذلك عن بعض الحفاظ ولعله أراد هذا وفي هذا الحصر نظر أيضا لما عرفت وقد شاركهما في ذلك حديث مسح الخفين فقد رواه أكثر من ستين من الصحابة ومنهم العشرة كما ذكره عبد الرحمن بن منده في المستخرج من كتب الناس .




                                                            الخدمات العلمية