الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          ذكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                          في هجرته إلى المدينة

                                                                                                                          6868 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة ، حدثنا ابن أبي السري ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير ، [ ص: 284 ] أن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لم أعقل أبوي قط ، إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا ، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة ، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة ، وهو سيد القارة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي ، فأريد أن أسيح في الأرض ، فأعبد ربي ، فقال ابن الدغنة : إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، وأنا لك جار ، فارجع فاعبد ربك ببلدك ، فارتحل ابن الدغنة ، فرجع مع أبي بكر ، فطاف ابن الدغنة في كفار قريش ، وقال : إن أبا بكر لا يخرج مثله ، وتخرجون رجلا يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ؟ ! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة ، وأمنوا أبا بكر رضي الله عنه ، وقالت لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ما شاء ، [ ص: 285 ] وليصل فيها ما شاء ، وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا ، ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره ، ففعل .

                                                                                                                          ثم بدا لأبي بكر ، فابتنى مسجدا بفناء داره ، فكان يصلي فيه ، وتقف عليه نساء المشركين ، وأبناؤهم ، وهم يعجبون منه ، وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة ، فقدم عليهم ، فقالوا : إنا قد أجرنا لك أبا بكر على أن يعبد الله في داره ، وإنه جاوز ذلك وابتنى مسجدا بفناء داره ، وأعلن بالصلاة والقراءة ، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد الله في داره فعل ، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك ، فسله أن يرد إليك ذمتك ، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرين لأبي بكر بالاستعلان .

                                                                                                                          فأتى ابن الدغنة أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، قد علمت الذي عقدت لك عليه ، فإما أن تقتصر على ذلك ، وإما أن ترد ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في عقد رجل عقدت له ، قال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك ، وأرضى بجوار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                          ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين : قد أريت دار هجرتكم ، أريت سبخة ذات نخل ، بين لابتين - وهما الحرتان - فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك [ ص: 286 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين ، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك ، فإني أرجو أن يؤذن لي ، قال أبو بكر : وترجو ذلك ، بأبي أنت ؟ قال : نعم ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحبته ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر .

                                                                                                                          قالت عائشة : فبينا نحن جلوس يوما في بيتنا في نحر الظهيرة ، إذ قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مقنع في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، قال أبو بكر : فداه أبي وأمي ، إن جاء به في هذه الساعة لأمر ، قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن ، فدخل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حين دخل لأبي بكر : أخرج من عندك ، فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أذن لي في الخروج ، قال أبو بكر : فالصحبة بأبي أنت يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فقال أبو بكر : بأبي أنت يا رسول الله ، فخذ إحدى راحلتي هاتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بالثمن .

                                                                                                                          قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز ، ووضعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها ، وأوكت به الجراب ، فلذلك كانت تسمى : ذات النطاق ، ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 287 ] وأبو بكر في غار في جبل يقال له : ثور ، فمكثا فيه ثلاث ليال
                                                                                                                          .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          الخدمات العلمية