الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( 13 ) قل الله أعبد مخلصا له ديني ( 14 ) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ( 15 ) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ( 16 ) والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد ( 17 ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ( 18 ) أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ( 19 ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ( 20 )

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قل إني أخاف إن عصيت ربي أي : بترك إخلاص العبادة له وتوحيده والدعاء إلى ترك الشرك وتضليل أهله عذاب يوم عظيم وهو يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أكثر المفسرين : المعنى إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو حمزة اليماني وابن المسيب : هذه الآية منسوخة بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ الفتح : 2 ] وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب ، لأن قبله إنما أمرت أن أعبد الله [ الزمر : 11 ] فالمراد عصيان هذا الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                      قل الله أعبد التقديم مشعر بالاختصاص أي : لا أعبد غيره لا استقلالا ولا على جهة الشركة ، ومعنى مخلصا له ديني أنه خالص لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما ، وقد تقدم تحقيقه في أول السورة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي : فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين [ الزمر : 11 ] وقوله : قل الله أعبد مخلصا له ديني قلنا : ليس هذا بتكرير ؛ لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان والعبادة ، والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحدا غير الله .

                                                                                                                                                                                                                                      فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه ، هذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ كقوله : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] وقيل : إن الأمر على حقيقته ، وهو منسوخ بآية السيف ، والأول أولى قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة أي : إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء ؛ لأن من دخل النار فقد خسر نفسه وأهله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : وهذا يعني به الكفار فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار ، وخسروا أهليهم ، لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة ، وجملة ألا ذلك هو الخسران المبين مستأنفة لتأكيد ما قبلها ، وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران ، ووصفه بكونه مبينا ، فإنه يدل على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران وأنه لا خسران يساويه ولا عقوبة تدانيه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين - سبحانه - هذا الخسران الذي حل بهم والبلاء النازل فوقهم بقوله : لهم من فوقهم ظلل من النار الظلل عبارة عن أطباق النار أي : لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم ومن تحتهم ظلل أي : أطباق من النار ، وسمي ما تحتهم ظللا لأنها تظل من تحتها من أهل النار ، لأن طبقات النار صار في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار ، ومثل هذه الآية قوله : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ الأعراف : 41 ] وقوله : يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم [ ص: 1279 ] [ العنكبوت : 55 ] والإشارة بقوله : ذلك إلى ما تقدم ذكره من وصف عذابهم في النار ، وهو مبتدأ وخبره قوله :يخوف الله به عباده أي : يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب ليخافوه فيتقوه ، وهو معنى ياعباد فاتقون أي : اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار ، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم ، وقيل : هو للكفار وأهل المعاصي ، وقيل : هو عام للمسلمين والكفار .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها الموصول مبتدأ وخبره قوله : لهم البشرى والطاغوت بناء مبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت ، وهو الأوثان والشيطان . وقال مجاهد وابن زيد : هو الشيطان . وقال الضحاك والسدي : هو الأوثان . وقيل : إنه الكاهن ، وقيل : هو اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت ، وقيل : إنه اسم عربي مشتق من الطغيان .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأخفش : الطاغوت جمع ، ويجوز أن يكون واحده مؤنثا ، ومعنى اجتنبوا الطاغوت : أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله - عز وجل - ، وقوله : أن يعبدوها في محل نصب على البدل من الطاغوت بدل اشتمال ، كأنه قال : اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وقد تقدم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة ، وقوله : وأنابوا إلى الله معطوف على اجتنبوا ، والمعنى : رجعوا إليه وأقبلوا على عبادته معرضين عما سواه لهم البشرى بالثواب الجزيل وهو الجنة ، وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل ، أو عند حضور الموت أو عند البعث .

                                                                                                                                                                                                                                      فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه المراد بالعباد هنا العموم ، فيدخل الموصوفون بالاجتناب والإنابة إليه دخولا أوليا ، والمعنى : يستمعون القول الحق من كتاب الله وسنة رسوله فيتبعون أحسنه أي : محكمه ، ويعملون به .

                                                                                                                                                                                                                                      قال السدي : يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه ، وقيل : هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به ، وقيل : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن ، وقيل : يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص ، وقيل : يأخذون بالعفو ويتركون العقوبة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أثنى - سبحانه - على هؤلاء المذكورين فقال : أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب أي : هم الذين أوصلهم الله إلى الحق وهم أصحاب العقول الصحيحة ، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم ولم ينتفع من عداهم بعقولهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر - سبحانه - من سبقت له الشقاوة وحرم السعادة فقال : أفمن حق عليه كلمة العذاب " من " هذه يحتمل أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء وخبرها محذوف أي : كمن يخاف ، أو فأنت تخلصه أو تتأسف عليه ويحتمل أن تكون شرطية ، وجوابه أفأنت تنقذ من في النار فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معنى الإنكار . وقال سيبويه إنه كرر الاستفهام لطول الكلام . وقال الفراء : المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب ، والمراد بكلمة العذاب هنا هي قوله - تعالى - لإبليس : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ ص : 85 ] وقوله : لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين [ الأعراف : 18 ] ومعنى الآية التسلية لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، لأنه كان حريصا على إيمان قومه ، فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عطاء : يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الإيمان ، وفي الآية تنزيل لمن يستحق العذاب بمن قد صار فيه ، وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر - سبحانه - فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللا من فوقهم النار ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة فقال : لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض ، ومعنى ( مبنية ) أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها وقوة بنائها وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها تجري من تحتها الأنهار أي : من تحت تلك الغرف ، وفي ذلك كمال لبهجتها وزيادة لرونقها ، وانتصاب وعد الله على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة ، لأن قوله لهم غرف في معنى وعدهم الله بذلك ، وجملة لا يخلف الله الميعاد مقررة للوعد أي : لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير والشر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم الآية . قال : هم الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : خسروا أنفسهم وأهليهم قال : أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله ، فغبنوهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : كان سعيد بن زيد وأبو ذر وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول والكلام : لا إله إلا الله ، قالوا بها ، فأنزل الله على نبيه يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد : " قال : لما نزل فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أرسل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مناديا فنادى : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، فاستقبل عمر الرسول فرده فقال : يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس فلا يعملون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا ، ولو يعلمون قدر سخط ربي وعقابه لاستصغروا أعمالهم وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية