الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 292 ] 61 - فصل

                          في كراهة الدخول في أرض الخراج ، وما نقل عن السلف في ذلك .

                          قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل ويحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سفيان العقيلي عن أبي عياض عن عمر رضي الله عنه قال : " لا تشتروا رقيق أهل الذمة ، فإنهم أهل خراج وأرضهم فلا تتبايعوها ، ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنجاه الله [ منه ] " .

                          [ ص: 293 ] وقد ذكر الأنصاري عن أبي عقيل بشير بن عقبة عن الحسن قال : قال عمر رضي الله عنه : " لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا أرضيهم " قال : فقلت للحسن : ولم ؟ قال : لأنهم فيء للمسلمين .

                          [ ص: 294 ] وقد ذكر الإمام أحمد هذا الأثر عن يزيد ثنا سعيد عن قتادة .

                          وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله قال : وأراد عمر أن يوفر الجزية ; لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم ، إذا كانوا عبيدا أخذ منهم جميعا الجزية .

                          وقال إسحاق بن منصور : قلت لأبي عبد الله : قول عمر : " لا تشتروا رقيق أهل الذمة " قال : لأنهم أهل خراج يؤدي بعضهم عن بعض فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ذلك .

                          وفي المسألة عن أحمد روايتان منصوصتان .

                          إحداهما : لا جزية عليه .

                          والثانية : عليه الجزية وهو ظاهر كلام الخرقي فيؤديها عنه سيده ، وهو ظاهر المنقول عن عمر وعلي رضي الله عنهما .

                          قال أحمد : ثنا يحيى ، ثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة أن عليا رضي الله عنه كان يكره ذلك : " يعني شراء رقيقهم " ، ويقول : من أجل أن عليهم خراجا للمسلمين .

                          [ ص: 295 ] وظاهر الأحاديث وجوبها على الرقيق ، فإنه لم يجيء في حديث واحد منها اختصاص ذلك بالأحرار ; ولأن الجزية ذل وصغار وهو أهل لذلك ; ولأنه قوي مكتسب فلم يقر في بلاد المسلمين بغير جزية وهذا القول هو الذي نختاره .

                          وقال مهنا بن يحيى الشامي : أخبرنا إسماعيل ابن علية عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سفيان العقيلي عن أبي عياض قال قال : عمر رضي الله عنه : " لا تبتاعوا رقيق أهل الذمة ، فإنما هم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا ، وأرضهم فلا تتبايعوها ، ولا يقرن أحدكم بالصغار في عنقه بعد إذ [ ص: 296 ] أنقذه الله منه .

                          قال مهنا : فسألته - يعني أحمد - عن سفيان العقيلي ؟ فقال : روى عنه قتادة وأيوب السختياني ، قلت : أي شيء روى أيوب عن سفيان ؟ فقال : هذا الحديث وهو مرسل ، ولم يذكر فيه أبا عياض .

                          وسألته : لم قال عمر : لا تتبايعوا رقيق أهل الذمة ، قال : لأنهم يؤدون الخراج .

                          وقال الميموني : تذاكرنا قول عمر هذا فقال أبو عبد الله : أظنه كرهه من أنهم جميعا في الأصل حيث أخذوا مماليك ، وإنما ملكوا هؤلاء بالقهر والغلبة منهم لهم ، فكره شراءهم واحتج لقوله أنه نهاهم عن شراء ما في أيدينا ، لأنهم إذا كان لهم أن يشتروا منا فلنا أن نشتري ما في أيديهم .

                          قال : هذا معنى كلام أبي عبد الله .

                          [ ص: 297 ] وما أرى الميموني فهم ما قال أحمد ، وإلا فلا أدري ما معنى هذا الكلام وعمر رضي الله عنه إنما قال : " لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا " ، وفي لفظ : " يؤدي بعضهم عن بعض " .

                          قال أحمد : فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ، هكذا لفظه في رواية إسحاق بن منصور ، وقد صرح في رواية مهنا بهذا ، وقد سأله عن قول عمر رضي الله عنه : ما معناه ؟ فقال : إنهم يؤدون الخراج ويستعبد بعضهم بعضا فإذا اشتراه مسلم لم يكن عليه خراج .

                          قلت : كأنه جعل استعباد بعضهم بعضا غير مؤثر في إسقاط الجزية عنهم ، وقد صرح به عمر رضي الله عنه في قوله : " إنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا " .

                          وللصحابة لاسيما الخلفاء منهم لاسيما عمر - فقه ونظر لا تبلغه أفهام من بعدهم ، فكأن عمر رضي الله عنه لم يثبت لرقيقهم أحكام الرقيق التي تثبت لرقيق المسلم ، وعلم أنهم يبيع بعضهم بعضا ، وذلك لا يثبت الرق في الحقيقة ، فمنع المسلم من شرائه احتياطا ولم يسقط الجزية عن رقبته وألزمها من ادعى أنه رقيقه ، وهذا من أدق النظر وألطف الفقه ، وقد وافقه على ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكره للمسلم شراءهم .

                          وقال سعيد : كان قتادة يكره أن يشترى من رقيقهم شيء إلا ما كان من غير بلادهم - زنجيا أو حبشيا أو خراسانيا - لا يبيع بعضهم بعضا .

                          [ ص: 298 ] قلت : وهذه مسألة قد عم بها الإسلام ، ووقع السؤال عنها مرارا وهي بيع الكفار أولادهم للمسلمين ، هل يملكهم المسلمون بذلك ويحل استخدامهم ؟

                          فإن كانوا أهل حرب جاز الشراء منهم وملك المشتري الأولاد ; لأنه يجوز ملكهم بالسبي والرق فيجوز بالشراء وإن كانوا ذمة تحت الجزية لم يجز اشتراء أولادهم ، ولا يملكهم المشتري لأنهم ملتزمون لجريان أحكام الإسلام عليهم وذلك ينافي حكم الإسلام .

                          وإن كانوا أهل هدنة لم تجر عليهم أحكام الإسلام فهل يجوز شراء أولادهم منهم ؟ فيه وجهان والجواز أظهر فإنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام ، ومن منع الشراء منهم قال : قد أمنوا بالهدنة من السبي وهذا في حكم السبي والفرق بينهما ظاهر والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية