الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الخامس عشر : ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ، ودعائه

          [ حدثنا القاضي الشهيد أبو علي - رحمه الله - ، حدثنا العذري ، حدثنا الرازي ، حدثنا الجلودي ، حدثنا ابن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا الحسن بن أعين ، حدثنا معقل ، عن أبي الزبير ] ، عن جابر أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستطعمه ، فأطعمه شطر وسق شعير ، فما زال يأكل منه ، وامرأته ، وضيفه حتى كاله ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره ، فقال : لو لم تكله لأكلتم منه ، ولقام بكم .

          ومن ذلك حديث أبي طلحة المشهور ، وإطعامه - صلى الله عليه وسلم - ثمانين أو سبعين رجلا من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت يده ، أي إبطه ، فأمر بها ففتت ، وقال فيهما ما شاء الله أن يقول .

          وحديث جابر في إطعامه - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير ، وعناق .

          وقال جابر : فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه ، وانحرفوا ، وإن برمتنا لتغط كما هي ، وإن عجيننا ليخبز .

          وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصق في العجين ، والبرمة ، وبارك .

          رواه عن جابر سعيد بن ميناء ، وأيمن .

          وعن ثابت مثله ، عن رجل من الأنصار ، وامرأته ، ولم يسمهما ، قال : وجيء بمثل الكف ، فجعل رسول [ ص: 299 ] الله - صلى الله عليه وسلم - يبسطها في الإناء ، ويقول ما شاء الله ، فأكل منه من في البيت ، والحجرة ، والدار ، وكان ذلك قد امتلأ ممن قدم معه - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، وبقي بعد ما شبعوا مثل ما كان في الإناء .

          وحديث أبي أيوب أنه صنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأبي بكر من الطعام زهاء ما يكفيهما ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ادع ثلاثين من أشراف الأنصار فدعاهم فأكلوا حتى تركوا ، ثم قال : ادع ستين فكان مثل ذلك ، ثم قال : ادع سبعين فأكلوا حتى تركوا ، وما خرج منهم أحد حتى أسلم ، وبايع .

          قال أبو أيوب : فأكل من طعامي مائة وثمانون رجلا
          .

          وعن سمرة بن جندب : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصعة فيها لحم ، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل ، يقوم قوم ، ويقعد آخرون .

          ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي بكر : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين ومائة ، وذكر في الحديث أنه عجن صاع من طعام ، وصنعت شاة ، فشوي سواد بطنها قال : وايم الله ، ما من الثلاثين ومائة إلا وقد حز له حزة من سواد بطنها ، ثم جعل منا قصعتين ، فأكلنا أجمعون ، وفضل في القصعتين ، فحملته على البعير .

          ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، عن أبيه ، ومثله لسلمة بن الأكوع ، وأبي هريرة ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فذكروا مخمصة أصابت [ ص: 300 ] الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه ، فدعا ببقية الأزواد ، فجاء الرجل بالحثية من الطعام ، وفوق ذلك ، وأعلاهم الذي أتى بالصاع من التمر ، فجمعه على نطع .

          قال سلمة : فحزرته كربضة العنز ، ثم دعا الناس بأوعيتهم ، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه ، وبقي منه قدر ما جعل وأكثر ، ولو ورده أهل الأرض لكفاهم .

          وعن أبي هريرة : أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أدعو له أهل الصفة ، فتتبعتهم حتى جمعتهم ، فوضعت بين أيدينا صفحة ، فأكلنا ما شئنا ، وفرغنا ، وهي مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع .

          وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب ، وكانوا أربعين ، منهم قوم يأكلون الجذعة ، ويشربون الفرق ، فصنع لهم مدا من طعام ، فأكلوا حتى شبعوا ، وبقي كما هو ، ثم دعا بعس ، فشربوا حتى رووا ، وبقي كأنه لم يشرب منه .

          وقال أنس : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ابتنى بزينب أمره أن يدعو له قوما سماهم ، وكل من لقيت ، حتى امتلأ البيت ، والحجرة ، وقدم إليهم تورا ، فيه قدر مد من تمر جعل حيسا ، فوضعه قدامه ، وغمس ثلاث أصابعه ، وجعل القوم يتغدون ، ويخرجون ، وبقي التور نحوا مما كان وكان القوم أحدا ، أو اثنين وسبعين .

          وفي رواية أخرى في هذه القصة أو مثلها ، إن القوم كانوا زهاء ثلاثمائة ، وأنهم أكلوا حتى شبعوا . وقال لي : ارفع ، فلا أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .

          وفي حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي - رضي الله عنه - أن فاطمة طبخت قدرا لغدائهما ، ووجهت عليا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتغدى معهما ، فأمر فغرفت منها لجميع نسائه صفحة صفحة ، ثم له - صلى الله عليه وسلم - ، ولعلي ، ثم لها ، ثم رفعت القدر ، وإنها لتفيض ، قال : فأكلنا منها ما شاء الله .

          وأمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من أحمس ، فقال : يا رسول الله ، ما هي إلا أصوع . قال : اذهب ، فذهب ، فزودهم منه ، وكان قدر الفصيل الرابض من التمر ، وبقي بحاله .

          من رواية دكين الأحمسي ، ومن رواية جرير .

          ومثله من رواية النعمان بن مقرن الخبر بعينه ، إلا أنه [ ص: 301 ] قال : أربعمائة راكب من مزينة .

          ومن ذلك حديث جابر في دين أبيه بعد موته ، وقد كان بذل لغرماء أبيه أصل ماله ، فلم يقبلوه ، ولم يكن في ثمرها سنتين كفاف دينهم ، فجاءه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أمره بجدها ، وجعلها بيادر في أصولها ، فمشى فيها ، ودعا ، فأوفى منه جابر غرماء أبيه ، وفضل مثل ما كانوا يجدون كل سنة .

          وفي رواية مثل ما أعطاهم ، قال : وكان الغرماء يهود ، فعجبوا من ذلك .

          وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : أصاب الناس مخمصة . فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل من شيء قلت : نعم ، شيء من التمر في المزود . قال : فأتني به فأدخل يده فأخرج قبضة ، فبسطها ، ودعا بالبركة ، ثم قال : ادع عشرة فأكلوا حتى شبعوا ، ثم عشرة كذلك ، حتى أطعم الجيش كلهم ، وشبعوا . قال : خذ ما جئت به ، وأدخل يدك ، واقبض منه ، ولا تكبه ، فقبضت على أكثر مما جئت به ، فأكلت منه ، وأطعمت حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبي بكر ، وعمر ، إلى أن قتل عثمان فانتهب مني ، فذهب .

          وفي رواية : فقد حملت من ذلك التمر كذا ، وكذا من وسق في سبيل الله .

          وذكرت مثل هذه الحكاية في غزوة تبوك ، وإن التمر كان بضع عشرة تمرة .

          ومنه أيضا حديث أبي هريرة حين أصابه الجوع ، فاستتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد لبنا في قدح قد أهدي إليه ، وأمره أن يدعو أهل الصفة .

          قال : فقلت : ما هذا اللبن فيهم ؟ كنت أحق أن أصيب منه شربة أتقوى بها . فدعوتهم .

          وذكر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسقيهم ، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يأخذه الآخر حتى روي جميعهم .

          قال : فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - القدح ، وقال : بقيت أنا ، وأنت ، اقعد [ ص: 302 ] فاشرب فشربت ، ثم قال : اشرب ، وما زال يقولها ، وأشرب حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ، ما أجد له مسلكا ، فأخذ القدح فحمد الله ، وسمى ، وشرب الفضلة .

          وفي حديث خالد بن عبد العزى أنه أجزر النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة ، وكان عيال خالد كثيرا يذبح الشاة فلا تبد عياله عظما ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من هذه الشاة ، وجعل فضلتها في دلو خالد ، ودعا له بالبركة ، فنثر ذلك لعياله ، فأكلوا ، وأفضلوا . ذكر خبره الدولابي .

          وفي حديث الآجري في إنكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي فاطمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالا بقصعة من أربعة أمداد ، أو خمسة ، ويذبح جزورا لوليمتها قال : فأتيته بذلك فطعن في رأسها ، ثم أدخل الناس رفقة رفقة يأكلون منها حتى فرغوا ، وبقيت منها فضلة ، فبرك فيها ، وأمر بحملها إلى أزواجه ، وقال : كلن ، وأطعمن من غشيكن .

          وفي حديث أنس : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصنعت أمي أم سليم حيسا ، فجعلته في تور ، فذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ضعه ، وادع لي فلانا ، وفلانا ، ومن لقيت فدعوتهم ، ولم أدع أحدا لقيته إلا دعوته ، وذكر أنهم كانوا زهاء ثلاثمائة حتى ملئوا الصفة ، والحجرة ، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : تحلقوا عشرة عشرة ، ووضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على الطعام ، فدعا فيه ، وقال ما شاء الله أن يقول ، فأكلوا حتى شبعوا [ ص: 303 ] كلهم ، فقال لي : ارفع فما أدري حين وضعت كانت أكثر أم حين رفعت .

          وأكثر أحاديث هذه الفصول الثلاثة في الصحيح . وقد اجتمع على معنى حديث هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة ، رواه عنهم أضعافهم من التابعين ، ثم من لا ينعد بعدهم .

          وأكثرها في قصص مشهورة ، ومجامع مشهودة ، ولا يمكن التحدث عنها إلا بالحق ، ولا يسكت الحاضر لها على ما أنكر منها .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية