الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب التأمين عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمام آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فتوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه .

                                                            زاد مسلم إذا قال أحدكم في الصلاة وعن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن القارئ فأمنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ولم يقل مسلم فإن الملائكة تؤمن وله إذا قال القارئ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال من خلفه : آمين فوافق قوله قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه وللبخاري إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين الحديث .

                                                            [ ص: 265 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 265 ] باب التأمين وهو مصدر لقوله أمن ومعنى أمن قال آمين ، وفي آمين ثلاث لغات : المد والقصر مع تخفيف الميم ولم يحك جمهور أهل اللغة غيرهما ، وأشهرهما المد والثالثة تشديد الميم مع القصر وهي ضعيفة قال الجوهري : وتشديد الميم خطأ وآمين اسم مبني على الفتح كأين وكيف واختلف في معناها فقيل : المعنى اللهم استجب وهو المشهور عند أكثر أهل اللغة وقيل : معناهما ليكن كذلك وبه جزم الرافعي تبعا للغزالي وقيل : هو اسم من أسماء الله تعالى وقيل : اسم قبيلة من الملائكة .

                                                            وفي سنن أبي داود عن أبي زهير النميري أحد الصحابة أن آمين مثل الطابع على الصحيفة ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم إن ختم بآمين فقد أوجب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال الإمام آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه فيه فوائد :

                                                            (الأولى) فيه حجة للشافعي وأحمد وإسحاق أنه يستحب للإمام التأمين عقب الفاتحة وخالف مالك في ذلك فلم يستحب للإمام التأمين قال ابن دقيق العيد : وأولوا قوله إذا أمن الإمام على بلوغه موضع التأمين وهو خاتمة الفاتحة كما يقال : أنجد إذا بلغ نجدا وأتهم إذا بلغ تهامة وأحرم إذا بلغ الحرم قال : وهذا مجاز فإن وجد دليل يرجحه على ظاهر هذا الحديث وهو قوله إذا أمن وهو حقيقة في التأمين عمل به وإلا فالأصل عدم المجاز قال ولعل مالكا رحمه الله اعتمد على عمل أهل المدينة إن كان لهم في ذلك عمل ورجح به مذهبه انتهى .

                                                            (قلت) وما حكاه من التأويل عنهم لا يحتمله لفظ الحديث المتقدم وهي رواية مالك في الموطإ ؛ لأن [ ص: 266 ] لفظها إذا قال الإمام آمين فهذه لا تحتمل المحمل الذي أولوا عليه إذا أمن الإمام والله أعلم وأيضا ينافي تأويلهم قوله فوافقت إحداهما الأخرى .



                                                            (الثانية) فيه أن الله تعالى جعل للملائكة قوة الإدراك بالسمع وهم في السماء لما ينطق به بنو آدم في الأرض أو لبعض ذلك ؛ لأنه جعل مكان تأمين الملائكة في السماء ويحتمل أن يراد بالسماء العلو والأولى حمله على ما تقدم .

                                                            (الثالثة) ظاهره أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة لتقييد تأمينهم بالسماء والحفظة مع بني آدم وقد حكى القرطبي في المفهم خلافا هل هم الحفظة أو غيرهم .



                                                            (الرابعة) اختلف في المراد بقوله فوافقت إحداهما الأخرى فالصحيح أن المراد الموافقة في الزمن بحيث يقع تأمين ابن آدم وتأمين الملائكة معا وهو ظاهر الحديث وقيل : المراد بذلك الموافقة في صفة التأمين من كونه بإخلاص وخشوع قال القرطبي : وهذا بعيد وقيل : من وافق الملائكة في استجابة الدعاء غفر له وقيل : من وافقهم في لفظ الدعاء قال القرطبي وابن دقيق العيد : والأول أظهر .

                                                            (الخامسة) الضمير في قوله غفر له راجع إلى الإمام ؛ لأنه ليس في هذه الرواية الأولى ذكر للمأموم أصلا فتعين حمله على الإمام .



                                                            (السادسة) ظاهر الحديث مغفرة ما تقدم من الذنوب سواء فيه الصغائر والكبائر وقد خص العلماء هذا وأشباهه بتكفير الصغائر فقط وقالوا : إنما يكفر الكبائر التوبة وكأنهم لما رأوا التقييد في بعض ذلك بالصغائر حملوا ما أطلق في غيرها عليها كالحديث الصحيح : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر والله أعلم .



                                                            (السابعة) فيه رد على الإمامية في دعواهم أن التأمين في الصلاة مبطل لها وهم في ذلك خارقون لإجماع السلف والخلف ولا حجة لهم في ذلك لا صحيحة ولا سقيمة .



                                                            (الطريق الثاني لحديث أبي هريرة ) إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فتوافق إحداهما الأخرى غفر الله ما تقدم من ذنبه .

                                                            وفيها فائدتان [ ص: 267 ] الأولى) فيه استحباب التأمين للمنفرد والمأموم أيضا من قوله أحدكم قال صاحب المفهم : وقد اتفقوا على أن الفذ يؤمن مطلقا والإمام والمأموم فيما يسران فيه يؤمنان .



                                                            (الثانية) أطلق في هذه الرواية التأمين ولم يقيدها بالصلاة فمن قال : يعمل بالمطلق كالحنفية والظاهرية يقولون : إن هذا الثواب لا يتقيد بالصلاة بل التأمين في غير الصلاة حكمه هكذا ويقال لهم : إن الثواب مترتب على موافقة تأمين ابن آدم لتأمين الملائكة وإنما نقل لنا تأمين الملائكة لتأمين المصلي كما سيأتي في الطريق الثالث وأما من حمل المطلق على المقيد فإنه يخصه بالصلاة لرواية مسلم إذا قال أحدكم في الصلاة آمين .



                                                            (الطريق الثالث) إذا أمن القارئ فأمنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه .

                                                            فيه فوائد :

                                                            (الأولى) ظاهره أنه إنما شرع التأمين للمأموم إذا أمن الإمام ؛ لأنه رتبه على تأمينه فإن ترك الإمام التأمين لم يؤمن المأموم وهذا وجه ضعيف بل ادعى النووي في شرح المهذب الاتفاق على خلافه وأنه إذا لم يؤمن الإمام فيستحب للمأموم الجهر به سواء تركه الإمام عمدا أو سهوا ونقله عن النص وقال إنهم اتفقوا عليه وإنه ليس فيه خلاف انتهى .

                                                            وظاهره إطلاق [ ص: 268 ] الرافعي يقتضي جريان الخلاف فيه وبه صرح القاضي مجلي في الذخائر .



                                                            (الثانية) قد يستدل به على أن تأمين المأموم يستحب أن يكون بعد تأمين الإمام ؛ لأنه رتبه عليه بالفاء وقد جزم أصحاب الشافعي باستحباب مقارنة الإمام فيه فقال الرافعي : والأحب أن يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام لا قبله ولا بعده وقال ابن الرفعة : إنه لا يستحب مساواته فيما عداه من الصلاة قال إمام الحرمين : ويمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه .

                                                            (قلت) ويدل عليه قوله في الرواية المتفق عليها وقد ذكرتها في آخر الباب إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين الحديث وروى أبو داود من حديث بلال أنه قال يا رسول الله : لا تسبقني بآمين وإسناده ثقات إلا أن البيهقي صحح رواية من جعله عن أبي عثمان النهدي مرسلا ثم رواه عن بلال قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبقني بآمين قال البيهقي : فكأن بلالا كان يؤمن قبل تأمين النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تسبقني بآمين كما قال إذا أمن الإمام فأمنوا .



                                                            (الثالثة) فيه أن الإمام يجهر بالتأمين فيما يجهر به من القراءة ، وإلا لما علق تأمينهم على تأمينه وإنما يطلع عليه بالسماع وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وذهب أبو حنيفة ومالك في رواية عنه إلى أنه يسر به قال ابن دقيق العيد : ودلالة الحديث على الجهر بالتأمين أضعف من دلالته على نفس التأمين قليلا ؛ لأنه قد يدل دليل على تأمين الإمام من غير جهر .

                                                            (قلت) قد ورد التصريح بالجهر فيما رواه أبو داود من حديث وائل بن حجر صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فجهر بآمين وفي لفظ له ورفع بها صوته ورواه الترمذي وحسنه بلفظ ومد بها صوته وأخرجه الحاكم وصححه وأما رواية شعبة في هذا الحديث وخفض بها صوته فهي خطأ خطأه فيها البخاري وأبو زرعة وغيرهما ولأبي داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد جيد مرفوعا كان إذا قال ولا الضالين قال آمين حتى يسمعنا أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد لفظ ابن ماجه وفي حديث أبي هريرة هذا جهر المأمومين أيضا بالتأمين ، وهو القول القديم للشافعي وعليه الفتوى وفي الجديد لا يجهرون قال الرافعي قال الأكثرون في المسألة قولان أصحهما أنه يجهر .



                                                            (الرابعة) فيه [ ص: 269 ] أنه يستحب التأمين لقراءة القارئ مطلقا ؛ لأنه ليس فيه تخصيصه بكونه إماما لكن رواية مسلم التي في آخر الباب تقتضي أن المراد الإمام فإنه قال إذا قال القارئ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال من خلفه آمين الحديث وفي رواية البخاري إذا قال الإمام الحديث .



                                                            (الخامسة) استدل القرطبي في المفهم بقوله إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين على تعيين قراءة الفاتحة للإمام وفي الاستدلال به على الوجوب نظر والأدلة على الوجوب قائمة صحيحة من غير هذا الحديث .



                                                            (السادسة) استدل به القرطبي أيضا على أن المأموم ليس عليه أن يقرأ الفاتحة فيما جهر به إمامه وما أدري ما وجه الدلالة منه والأدلة الصحيحة قائمة على وجوب القراءة على المأموم مطلقا .



                                                            (السابعة) في مطلق الأمر بتأمين المأموم لتأمين الإمام أن المأموم يؤمن وإن كان يقرأ في أثناء فاتحة نفسه وهو كذلك على المشهور من الوجهين كما قال الرافعي ولكن اختلف أصحابنا هل تنقطع الموالاة بذلك حتى يجب استئنافها أم لا تنقطع ويبنى عليها على وجهين أصحهما كما قال الرافعي الثاني ؛ لأنه مأمور بذلك لمصلحة الصلاة بل زاد أبو علي الفارقي صاحب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي على هذا بأن المأموم لو قرأ بعض الفاتحة في السكتة الأولى ثم قرأ الإمام استمع المأموم فإذا فرغ الإمام وسكت في الثانية أتمها ولا تبطل الصلاة ؛ لأنه مأمور بهذا السكوت فكأن الفارقي لحظ كون الفصل من مصلحة الصلاة لكن قال المحب الطبري في شرح التنبيه وهذا لم أره لغيره من الأصحاب انتهى .

                                                            وذلك بخلاف المندوب الذي لا يتعلق بالصلاة كالعاطس يحمد الله في أثناء الفاتحة فإنه يجب استئنافها والله أعلم .



                                                            (الثامنة) المستحب الاقتصار على التأمين عقب الفاتحة من غير زيادة عليه اتباعا للحديث وأما ما رواه البيهقي من حديث وائل بن حجر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال رب اغفر لي آمين فإن في إسناده أبا بكر النهشلي وهو ضعيف وفي الأم للشافعي فإن قال آمين رب العالمين كان حسنا ونقله النووي من زوائده في الروضة .




                                                            الخدمات العلمية