الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 53 ] فصل ومن هذا الباب لفظ " الكفر " و " النفاق " فالكفر إذا ذكر مفردا في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون كقوله : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } . وقوله : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا } . وقوله : { لا يصلاها إلا الأشقى } { الذي كذب وتولى } وقوله : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } وقوله : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } { قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } . وقوله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } . وقوله : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } { وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } وقوله : [ ص: 54 ] { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية } .

                وأمثال هذه النصوص كثير في القرآن . فهذه كلها يدخل فيها " المنافقون " الذين هم في الباطن كفار ليس معهم من الإيمان شيء كما يدخل فيها " الكفار " المظهرون للكفر ; بل المنافقون في الدرك الأسفل من النار كما أخبر الله بذلك في كتابه . ثم قد يقرن " الكفر بالنفاق " في مواضع ; ففي أول البقرة ذكر أربع آيات في صفة المؤمنين وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين فقال تعالى : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } وقال : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا } إلى قوله : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير } . وقال : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } . في سورتين وقال : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا } . الآية . وكذلك لفظ " المشركين " قد يقرن بأهل الكتاب فقط وقد يقرن بالملل الخمس ; كما في قوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد } . و ( الأول ) كقوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } . وقوله : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية } . وقوله تعالى { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } .

                وليس أحد بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلا من الذين أوتوا الكتاب أو الأميين ، وكل أمة لم تكن من الذين أوتوا الكتاب فهم من الأميين ; كالأميين من العرب ومن الخزر والصقالبة والهند والسودان وغيرهم من الأمم الذين لا كتاب لهم فهؤلاء كلهم أميون ، والرسول مبعوث إليهم كما بعث إلى الأميين من العرب . وقوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب } - وهو إنما يخاطب الموجودين في زمانه بعد النسخ والتبديل - يدل على أن من دان بدين اليهود والنصارى فهو من الذين أوتوا الكتاب لا يختص هذا اللفظ بمن كانوا متمسكين به قبل النسخ والتبديل ولا فرق بين أولادهم وأولاد غيرهم ; فإن أولادهم إذا كانوا بعد النسخ والتبديل ممن أوتوا الكتاب فكذلك غيرهم إذا كانوا كلهم كفارا وقد جعلهم الذين أوتوا الكتاب بقوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب } وهو لا يخاطب بذلك إلا من بلغته رسالته ; لا من مات ; فدل ذلك على أن قوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب } يتناول هؤلاء كلهم كما هو مذهب الجمهور من السلف والخلف وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته لم يختلف كلامه إلا في نصارى بني تغلب ، وآخر الروايتين عنه : أنهم تباح نساؤهم وذبائحهم ; كما هو قول جمهور الصحابة .

                [ ص: 56 ] وقوله في " الرواية الأخرى " : لا تباح ; متابعة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن لأجل النسب ; بل لكونهم لم يدخلوا في دين أهل الكتاب إلا فيما يشتهونه من شرب الخمر ونحوه ولكن بعض التابعين ظن أن ذلك لأجل النسب كما نقل عن عطاء وقال به الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وفرعوا على ذلك فروعا كمن كان أحد أبويه كتابيا والآخر ليس بكتابي ونحو ذلك حتى لا يوجد في طائفة من كتب أصحاب أحمد إلا هذا القول ; وهو خطأ على مذهبه مخالف لنصوصه لم يعلق الحكم بالنسب في مثل هذا ألبتة كما قد بسط في موضعه . ولفظ " المشركين " يذكر مفردا في مثل قوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } وهل يتناول أهل الكتاب ؟ فيه " قولان " مشهوران للسلف والخلف . والذين قالوا : بأنها تعم ; منهم من قال : هي محكمة كابن عمر والجمهور الذين يبيحون نكاح الكتابيات ; كما ذكره الله في آية المائدة وهي متأخرة عن هذه . ومنهم من يقول : نسخ منها تحريم نكاح الكتابيات . ومنهم من يقول : بل هو مخصوص لم يرد باللفظ العام ، وقد أنزل الله تعالى بعد صلح الحديبية قوله : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } . وهذا قد يقال : إنما نهى عن التمسك بالعصمة من كان متزوجا كافرة ولم يكونوا حينئذ متزوجين إلا بمشركة وثنية ; فلم يدخل في ذلك الكتابيات .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية