الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 314 ] 692 - باب بيان مشكل ما روي عن عبد الله بن عباس في السبب الذي أنزلت فيه : فإن جاؤوك فاحكم بينهم إلى قوله : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط

4466 - حدثنا فهد ، حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين قال : كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلا أدوا نصف الدية ، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير قتيلا أدوا الدية إليهم ، قال : فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم في الدية .

[ ص: 315 ]

4467 - وحدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأسدي ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إن الآيات في المائدة : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبني النضير ، وذلك أن قتلى بني النضير - وكان لهم شرف - يودون الدية كاملة ، وإن قريظة كانوا يودون نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق ، فجعل الدية سواء ، والله أعلم أي في ذلك كان .

قال أبو جعفر : يعني رده من كان يأخذ الدية كاملة من الفريقين إلى نصف الدية التي كان يأخذها الفريق الآخر ، أو من رده من كان يأخذ نصف الدية إلى جميع الدية التي كان يأخذها الفريق الآخر .

فقال قائل : فقد رويتم عن ابن عباس من غير هذا الوجه أن نزول [ ص: 316 ] هذا المعنى في خلاف ما ذكر نزوله فيه في هذا الحديث .

4468 - وذكر ما قد حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، حدثنا يوسف القطان ، حدثنا عبيد الله يعني ابن موسى ، عن علي بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير ، وكانت النضير أشرف من بني قريظة ، وكان إذا قتل الرجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلا من بني قريظة أدوا مائة وسق تمر ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير ، فقالوا : ادفعوه إلينا نقتله ، فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتوه ، فنزلت : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، والقسط : النفس بالنفس ، ثم نزلت : أفحكم الجاهلية يبغون .

[ ص: 317 ]

4469 - وما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا القاسم بن زكريا ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا علي بن صالح ، ثم ذكر هذا الحديث بإسناده ومتنه .

قال : ففي هذا الحديث أن نزول هذا المعنى كان في القصاص لا في الدية ، وهذا اختلاف شديد .

فكان جوابنا له في ذلك أنه قد يحتمل أن يكون القوم اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين المعنيين جميعا من ديات قتلاهم المقتولين القتل الذي لا يوجب القود ، ومن القصاص بقتلاهم القتل الذي يوجب القود ، فأنزل الله هذه الآية في السببين جميعا ، فسوى بينهم في الديات ، وسوى بينهم في تكافؤ الأنفس ووجوب القصاص فيها .

وقد قال قائل : إن ديات المعاهدين أربعة آلاف درهم ، واحتج لذلك بما قد

حدثنا يونس ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن صدقة ، عن سعيد بن المسيب قال : قضى عثمان في دية المعاهد بأربعة آلاف درهم .

[ ص: 318 ] قال أبو جعفر : وصدقة هذا هو صدقة بن يسار ، ويقال : إن أصله من خراسان ، فسكن المدينة وقطنها ، وأخذ الناس عنه . فممن أخذ عنه مالك بن أنس وغيره .

فكان من الحجة على هذا القائل في هذا المعنى لمخالفته فيه ما قد روي عن عثمان في ديات المعاهدين مما يخالف مالك .

كما حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا يوسف بن إبراهيم العثري ويعقوب بن حميد قالا : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن مسلما قتل كافرا من أهل العهد ، فقضى عليه عثمان بن عفان بدية المسلم .

وقد دل على أن ما في هذا الحديث عن عثمان أولى مما في الحديث الأول عنه ، إذ ما في الحديث الأول إنما هو عن سعيد ، عن عثمان ، وقد روي عن سعيد من قوله في هذا المعنى .

ما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا إسماعيل بن هود الواسطي ، [ ص: 319 ] حدثنا محمد بن يزيد ، عن سفيان بن الحسين ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : دية كل معاهد في عهده ألف دينار .

ثم قد وافق سعيد بن المسيب على هذا القول غير واحد من التابعين .

كما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبي عميس ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم .

[ ص: 320 ]

وكما حدثنا أحمد ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف ، عن الشعبي قال : دية اليهودي والنصراني سواء ، هكذا في كتابي .

وكما حدثنا أحمد قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا إسماعيل ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء قالا : دية المسلم والنصراني سواء .

وكان في حديث ابن عباس الذي بدأنا بروايتنا إياه في هذا الباب ما قد دل على نفي حديث سعيد عن عثمان في دية المعاهد أنها أربعة آلاف ، لأن في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حملهم على الحق ، فجعل الدية سواء ، فدل على أنه قد رد الدية لهم جميعا إلى الدية كاملة ، أو رد الدية كاملة إلى نصف الدية ، ففي ذلك نفي الأربعة آلاف أن تكون دية للمعاهد .

[ ص: 321 ] ثم رجعنا إلى كشف المعنى في هذا الاختلاف ، فوجدنا الله تعالى قد قال : في كتابه : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ، ثم أتبع ذلك بقوله : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ، فكان الله جل جلاله فيما تلونا من قتل المؤمن خطأ الدية التي ذكرها في هذه الآية ، وتحرير الرقبة التي ذكرها فيها ، ثم جعل فيمن كان بيننا وبينهم ميثاق الدية والكفارة أيضا ، فسوى بينهما في الكفارة الواجبة فيهما ، فكان معقولا بذلك أن يستويا جميعا في الدية إذ كان الخطاب بالواجب في المسلم المقتول خطأ ، وفي ذي الميثاق المقتول خطأ سواء ، ولم نجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيئا أحسن من حديث روي عن عمرو بن شعيب فيه ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو .

4470 - كما حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا أبو عمر الحوضي ، حدثنا محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عقل أهل الكتاب على النصف من عقل المسلمين ، وهم اليهود والنصارى .

[ ص: 322 ] فإن كان هذا الحديث ثابتا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله تعالى الدية التي ذكرها في ذي الميثاق ما هي ، وإن كان بخلاف ذلك ، كان ظاهر القرآن يدل على تساوي المسلمين وذوي العهود في الديات ، ومن القائلين بالتساوي في ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، ومن القائلين بأن الواجب فيهم نصف الدية مالك وأصحابه ، ومن القائلين في دياتهم أنها أربعة آلاف الشافعي .

غير أنه قد روي عن الزهري في ذلك ما قد حدثنا محمد بن النعمان السقطي ، حدثنا الأويسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب قال : كان أبو بكر وعمر وعثمان يجعلون دية اليهود والنصارى إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم .

[ ص: 323 ] ففي هذا أيضا ما قد وكد ما ذهب إليه الذين سووا بين الديات في المسلمين والمعاهدين ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية