الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون

اختلف المتأولون في المراد بقوله: أفمن فقالت فرقة: المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: المراد محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس : المراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون جميعا.

وكذلك اختلف في المراد بـ "البينة" فقالت فرقة: المراد بذلك القرآن، أي على جلية بسبب القرآن، وقالت فرقة: المراد محمد صلى الله عليه وسلم والهاء في "البينة" للمبالغة كهاء علامة ونسابة.

وكذلك اختلف في المراد بـ "الشاهد" فقال ابن عباس رضي الله عنهما رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة : هو جبريل.

وقال [ ص: 553 ] الحسين بن علي : هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد أيضا: هو ملك وكله الله بحفظ القرآن.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل.

وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة : هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروي ذلك عنه، وقالت فرقة: هو الإنجيل، وقالت فرقة: هو القرآن، وقالت فرقة: هو إعجاز القرآن.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويتصرف قوله: يتلوه على معنيين: بمعنى يقرأ، وبمعنى يتبعه، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في "الشاهد" ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل.

فإذا قلنا إن قوله: "أفمن" يراد به المؤمنون، فإن جعلت بعد ذلك "البينة" محمدا صلى الله عليه وسلم صح أن يترتب "الشاهد" الإنجيل ويكون يتلوه بمعنى يقرأه، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد صلى الله عليه وسلم وأن يترتب جبريل عليه السلام ويكون يتلوه بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة فيه، وأن يترتب الملك ويكون الضمير في منه عائدا على البينة التي قدرناها محمدا صلى الله عليه وسلم وأن يترتب القرآن ويكون يتلوه بمعنى يتبعه، ويعود الضمير في منه على الرب.

وإن جعلنا "البينة" القرآن على أن أفمن هم المؤمنون- صح أن يترتب "الشاهد" محمد صلى الله عليه وسلم، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك. ويكون يتلوه بمعنى يقرأه: وصح أن يترتب "الشاهد" الإعجاز، ويكون يتلوه بمعنى يتبعه، ويعود الضمير فى منه على القرآن.

وإذا جعلنا أفمن للنبي صلى الله عليه وسلم، كانت "البينة" القرآن، وترتب "الشاهد" لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وترتب الإنجيل، وترتب جبريل والملك، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وترتب الإعجاز. ويتأول يتلوه بحسب "الشاهد" كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله: أولئك فإنا إذا جعلنا قوله: أفمن للنبي صلى الله عليه وسلم وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه [ ص: 554 ] بقوله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وهو شبه ليس بالقوي.

والأصح في الآية أن يكون قوله: أفمن للمؤمنين، أو للمؤمنين والنبي معهم بألا يترتب "الشاهد" بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلا في قوله: أفمن. وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله.

وقرأ جمهور الناس "كتاب" بالرفع وقرأ الكلبي وغيره "كتابا" بالنصب فمن رفع قدر "الشاهد" الإنجيل معناه: يقرأ القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم- بحسب الخلاف- و "الإنجيل" و "من قبل" كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى الله عليه وسلم.

ويصح أن يقدر الرافع "الشاهد" القرآن، وتطرد الألفاظ بعد ذلك، ومن نصب "كتابا" قدر "الشاهد" جبريل عليه السلام، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهنا اعتراض يقال: إذ قال من قبله كتاب موسى أو "كتاب" بالنصب على القراءتين. والضمير في قبله عائد على القرآن- فلم لم يذكر الإنجيل- وهو قبله- بينه وبين كتاب موسى؟ فالانفصال: أنه خص التوراة بالذكر لأن الملتين مجمعتان أنهما من عند الله، والإنجيل ليس كذلك: فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى: وهذا يجري مع قول الجن: إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ومع قول النجاشي : إن هذا، والذي جاء به موسى، لخرج من مشكاة واحدة فإنما [ ص: 555 ] اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة، ونصب إماما على الحال من كتاب موسى، والأحزاب هاهنا يراد به جميع الأمم، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" فقلت: أين مصداق هذا من كتاب الله؟ حتى وجدته في هذه الآية، وكنت إذا سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله. قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون أفمن للمؤمنين أو لهم وللنبي معهم، إذ قد تقدم ذكر الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ، فعقب ذكرهم بذكر غيرهم، و "البينة" القرآن وما تضمن. و "الشاهد" محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل إذا دخل النبي في قوله: أفمن أو الإنجيل والضمير في يتلوه للبينة، وفي منه للرب تعالى، والضمير في قبله للبينة، وغير هذا مما ذكرته آنفا محتمل.

وقرأ الجمهور "في مرية" بكسر الميم، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي "في مرية" بضم الميم، وهما لغتان في الشك، والضمير في منه عائد على كون الكفرة موعدهم النار، وسائر الآية بين.

وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره: أفمن كان على بينة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه، ونحو هذا، في معنى الحذف، قوله عز وجل: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، لكان هذا القرآن، ومن ذلك قول الشاعر:

[ ص: 556 ]

فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا



التقدير لرددناه ولم نصغ إليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية