الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الخامس في قسمه - تعالى - جده له ، لتحقق مكانته عنده

          قال جل اسمه : والضحى والليل إذا سجى [ الضحى 1 : 2 ] السورة . اختلف في سبب نزول هذه السورة ، فقيل : كان ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل لعذر نزل به ، فتكلمت امرأة في ذلك بكلام ، وقيل : بل تكلم به المشركون عند فترة الوحي ، فنزلت السورة . قال الفقيه القاضي وفقه الله تعالى : تضمنت من كرامة الله تعالى له ، وتنويهه به ، وتعظيمه إياه ستة وجوه :

          الأول : القسم له عما أخبره به من حاله بقوله - تعالى - : والضحى والليل إذا سجى [ الضحى : 1 - 2 ] . أي : ورب الضحى ، وهذا من أعظم درجات المبرة .

          الثاني : بيان مكانته عنده ، وحظوته لديه بقوله - تعالى - : ما ودعك ربك وما قلى [ الضحى : 3 ] ، أي ما تركك ، وما أبغضك ، وقيل : ما أهملك بعد أن اصطفاك .

          الثالث : قوله - تعالى - : وللآخرة خير لك من الأولى [ الضحى : 4 ] ، قال ابن إسحاق : أي مآلك في مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا . وقال سهل : أي ادخرت لك من الشفاعة ، والمقام المحمود خير لك مما أعطيتك في الدنيا .

          الرابع : قوله - تعالى - : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ الضحى : 5 ] ، وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة ، وأنواع السعادة ، وشتات الإنعام في الدارين ، والزيادة .

          [ ص: 136 ] قال ابن إسحاق : يرضيه بالفلج في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، وقيل : يعطيه الحوض ، والشفاعة .

          وروي عن بعض آل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ليس آية في القرآن أرجى منها ، ولا يرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل أحد من أمته النار .

          الخامس : ما عدده - تعالى - عليه من نعمه ، وقرره من آلائه قبله في بقية السورة ، من هدايته إلى ما هداه له ، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير ، ولا مال له ، فأغناه بما آتاه ، أو بما جعله في قلبه من القناعة ، والغنى ، ويتيما فحدب عليه عمه ، وآواه إليه ، وقيل : آواه إلى الله ، وقيل : يتيما : لا مثال لك ، فآواك إليه ، وقيل : المعنى : ألم يجدك فهدى بك ضالا ، وأغنى بك عائلا ، وآوى بك يتيما ؟ ذكره بهذه المنن ، وأنه على المعلوم من التفسير لم يهمله في حال صغره ، وعيلته ، ويتمه ، وقبل معرفته به ، ولا ودعه ، ولا قلاه ، فكيف بعد اختصاصه ، واصطفائه ؟ !

          السادس : أمره بإظهار نعمته عليه ، وشكر ما شرفه بنشره ، وإشادة ذكره بقوله - تعالى - : وأما بنعمة ربك فحدث [ الضحى : 11 ] ، فإن من شكر النعمة التحدث بها ، وهذا خاص له ، عام لأمته ، وقال - تعالى - : والنجم إذا هوى [ النجم : 1 ] إلى قوله تعالى : لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ النجم : 18 ] .

          اختلف المفسرون في قوله - تعالى - : والنجم بأقاويل معروفة ، منها النجم على ظاهره ، ومنها القرآن .

          وعن جعفر بن محمد أنه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : هو قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قيل في قوله - تعالى - : والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب [ الطارق : 1 : 3 ] إن النجم هنا أيضا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حكاه السلمي . تضمنت هذه الآيات من فضله ، وشرفه العد ما يقف دونه العد ، وأقسم جل اسمه على هداية المصطفى ، وتنزيهه عن الهوى ، وصدقه فيما تلا ، وأنه وحي يوحى أوصله إليه عن الله جبريل ، وهو الشديد القوى . ثم أخبر - تعالى - عن فضيلته بقصة الإسراء ، [ ص: 137 ] وانتهائه إلى سدرة المنتهى ، وتصديق بصره فيما رأى ، وأنه رأى من آيات ربه الكبرى ، وقد نبه على مثل هذا في أول سورة الإسراء ، ولما كان ما كاشفه به - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الجبروت ، وشاهده من عجائب الملكوت لا تحيط به العبارات ، ولا تستقل بحمل سماع أدناه العقول رمز عنه - تعالى - بالإيماء ، والكناية الدالة على التعظيم ، فقال - تعالى - : فأوحى إلى عبده ما أوحى [ النجم 10 ] . وهذا النوع من الكلام يسميه أهل النقد والبلاغة بالوحي ، والإشارة ، وهو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز ، وقال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ النجم : 18 ] انحسرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى ، وتاهت الأحلام في تعيين تلك الآيات الكبرى .

          قال القاضي أبو الفضل : اشتملت هذه الآيات على إعلام الله - تعالى - بتزكية جملته - صلى الله عليه وسلم - ، وعصمتها من الآفات في هذا المسرى ، فزكى فؤاده ، ولسانه وجوارحه : فقلبه بقوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ولسانه بقوله : وما ينطق عن الهوى [ النجم : 3 ] . وبصره بقوله : ما زاغ البصر وما طغى [ النجم : 17 ] . وقال - تعالى - : فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس [ التكوير : 15 : 16 ] - إلى قوله - : وما هو بقول شيطان رجيم [ التكوير : 25 ] . لا أقسم : أي أقسم . إنه لقول رسول كريم ، أي كريم عند مرسله . ذي قوة على تبليغ ما حمله من الوحي ، مكين : أي متمكن المنزلة من ربه ، رفيع المحل عنده ، مطاع ثم : أي في السماء . أمين على الوحي . قال علي بن عيسى ، وغيره : الرسول الكريم هنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فجميع الأوصاف بعد على هذا له .

          وقال غيره : هو جبريل ، فترجع الأوصاف إليه . ولقد رآه يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - . قيل : رأى ربه ، وقيل : رأى جبريل في صورته ، ( وما هو على الغيب بظنين ) ، أي : بمتهم ، ومن قرأها بالضاد فمعناه : ما هو ببخيل بالدعاء به ، والتذكير بحكمه ، وبعلمه ، وهذه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - باتفاق ، وقال - تعالى - : ن والقلم [ القلم : 1 ] الآيات . أقسم الله - تعالى - بما أقسم به من عظيم قسمه على تنزيه المصطفى مما غمصته الكفرة به ، وتكذيبهم له ، وأنسه ، وبسط أمله بقوله محسنا خطابه : ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ القلم : 2 ] ، وهذه نهاية المبرة في المخاطبة ، وأعلى درجات الآداب في المحاورة ، ثم أعلمه بما له عنده من نعيم دائم ، وثواب غير منقطع ، لا يأخذه عد ، ولا يمن به عليه ، فقال - تعالى - وإن لك لأجرا غير ممنون . ثم أثنى عليه بما منحه من هباته ، وهداه إليه ، وأكد ذلك تتميما للتمجيد بحرفي [ ص: 138 ] التوكيد ، فقال - تعالى - : وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] قيل : القرآن وقيل : الإسلام ، وقيل : الطبع الكريم ، وقيل : ليس لك همة إلا الله .

          قال الواسطي : أثنى عليه بحسن قبوله لما أسداه إليه من نعمه ، وفضله بذلك على غيره ، لأنه جبله على ذلك الخلق ، فسبحان اللطيف الكريم ، المحسن الجواد ، الحميد الذي يسر للخير ، وهدى إليه ، ثم أثنى على فاعله ، وجازاه عليه - سبحانه - ، ما أغمر نواله ، وأوسع إفضاله ، ثم سلاه عن قولهم بعد هذا بما وعده به من عقابهم ، وتوعدهم بقوله : فستبصر ويبصرون [ القلم : 5 ] . ثم عطف بعد مدحه على ذم عدوه ، وذكره سوء خلقه ، وعد معايبه ، متوليا ذلك بفضله ، ومنتصرا لنبيه ، فذكر بضع عشرة خصلة من خصال الذم فيه بقوله : فلا تطع المكذبين [ القلم : 8 ] - إلى قوله - : أساطير الأولين [ القلم : 15 ] ثم ختم ذلك بالوعد الصادق بتمام شقائه ، وخاتمة بواره بقوله : سنسمه على الخرطوم [ القلم : 16 ] . فكانت نصرة الله تعالى له أتم من نصرته لنفسه ، ورده - تعالى - على عدوه أبلغ من رده ، وأثبت في ديوان مجده .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية