الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      فصل [ الغرض من علم الأصول وحقيقته ] [ ومادته وموضوعه ومسائله ]

                                                      يجب على كل طالب علم أن يعلم ما الغرض منه ؟ وما هو ؟ ومن أين ؟ وفيم ؟ وكيف يحصل حتى يتمكن له الطلب ويسهل ؟ والأول : فائدته .

                                                      والثاني : حقيقته ومبادئه . والثالث : مادته التي منها يستمد . والرابع : موضوعه ، والخامس : مسائله .

                                                      أما الفائدة : فهي الغاية الموصلة للأمور المهمة ، وللسبب الغائي اعتباران : أول الفكر ، ويسمى الباعث . ومنتهاه وهو آخر العمل ، ويسمى الفائدة . [ ص: 45 ]

                                                      وأما الحقيقة : وهو اقتناصه بحد أو رسم أو تقسيم . والقصد به الإرشاد إلى المطلوب وإيضاحه .

                                                      قال المازري : وإنما يحتاج إليه في التعليم للغير ، وأما الطالب لنفسه إذا لاح له حقيقة ما يطلب صح طلبه ، وإن لم يحسن عبارة عنه صالحة للحد فلا يكون هذا شرطا إلا في حق من أراد التعليم لا التعلم .

                                                      وأما المادة : فذكر إمام الحرمين وتابعوه : أن أصول الفقه مستمد من ثلاثة علوم : الكلام ، والفقه ، والعربية .

                                                      أما الكلام : فلتوقف الأدلة على معرفة الباري تعالى بقدر الممكن من ذاته وصفاته وأفعاله . ومعرفة صدق رسوله ، ويتوقف ثبوته على أن المعجزة تدل على دعوى الرسالة . وذلك كله مبين في علم الكلام فيسلم هنا .

                                                      وتخص النظر في دليل الحكم هنا بعلم خمسة أشياء : كلام الله تعالى لمخاطب ، وقدرة العبد كسبا ليكلف ، وتعلق الكلام القديم بفعل المكلف ليوجد الحكم ، ورفع التعلق فينسخ ، وصدق المبلغ ليبين .

                                                      وأما العربية : فلأن الأدلة جاءت بلسان العرب ، وهي تشتمل على ثلاثة فنون :

                                                      علم النحو : وهو علم مجاري أواخر الكلم رفعا ، ونصبا ، وجرا ، وجزما .

                                                      وعلم اللغة : وهي تحقيق مدلولات الألفاظ العربية في ذواتها .

                                                      وعلم الأدب : وهو علم نظم الكلام ، ومعرفة مراتبه على مقتضى الحال . [ ص: 46 ]

                                                      وإنما يكون هذا مادة لبعض أنواع الأصول ، وهو الخطاب دون مسائل الأخبار ، والإجماع ، والنسخ ، والقياس ، وهي معظم الأصول . ثم إن المادة فيه ليست على نظير المادة من الكلام ، فإن العلم بها مادة لفهم الأدلة .

                                                      وأما الفقه : فلأنه مدلول أصول الفقه ، وأصول الفقه أدلته ، ولا يعلم الدليل مجردا من مدلوله .

                                                      والأولى أن يقال في وجه استمداده من علم الكلام : إن علم أصول الفقه فيه ألفاظ لا تعلم مسمياتها من غير أصول الدين لكنها تؤخذ مسلمة فيه . على أن يبرهن في غيره من العلوم ، أو تكون مسلمة في نفسها . وهي العلم ، والظن ، والدليل ، والأمارة ، والنظر ، لأن لفظ الطرق يشمل ذلك كله ، والحكم أيضا ، إذ لا بد فيه من خطاب شرعي ، ولا يثبت ذلك بالدليل في غير أصول الدين ، وما ذكر منه غير ما عددناه ، فهو تبع ، ولا بد من معرفة هذه الأمور في معرفة هذا العلم ، ليتوقف منه إذن على بعضه لا على كله . وإلى هذا أشار ابن برهان وغيره .

                                                      وذكر الغزالي أن استمداد أصول الفقه من شيء واحد ، وهو قول الرسول الذي دل التكلم على صدقه ، فينظر في وجه دلالته على الأحكام .

                                                      إما بملفوظه ، أو بمفهومه ، أو بمعقول معناه ومستنبطه ، ولا يجاوز نظر الأصولي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله .

                                                      قال : وقول الرسول إنما يثبت صدقه وكونه حجة من علم الكلام .

                                                      وهذا ليس بمرضي فإن من جملة ما يوجد فيه من علم الكلام معرفة العلم ، والظن ، والدليل ، والنظر وغيره مما سبق . وقوله بأن نظر الأصولي لا يجاوز قوله وفعله ممنوع . فإنه ينظر في الاستصحاب والأفعال قبل الشرع ، وقول الصحابي ، وغيره مما ليس بقول الرسول ، ولا فعله .

                                                      واعلم أن المادة على قسمين : إسنادية ، مقومة ، فالمقومة داخلة في أجزاء الشيء وحقيقته ، وهي الفقه ، والإسنادية ما استندت إلى الدليل ، كعلم الكلام لأنه يعلم أصول [ ص: 47 ] الفقه وإن لم يعلم علم الكلام ، وإنما علم الكلام دليل المعجزة ، وهو دليل الأصول ، فاستند إلى الدليل . وكذلك مادة العربية .

                                                      فإن قلت : كيف يجعل الفقه مادة للأصول . وهو فرع الأصول ، ومادة كل شيء أصله ، فهذا يؤدي إلى أن يكون الفرع أصلا والأصل فرعا ؟ أجاب المقترح في تعليقه على البرهان " بأنه لا بد أن يذكر الفقه في الأصول من حيث الجملة ، فيذكر الواجب بما هو واجب ، والمندوب بما هو مندوب ، لأن هذا القدر مبين حقيقة الأصول . وإنما المحذور أن يذكر جزئيات المسائل ، فإن ذكرها يؤدي إلى الدور .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية