الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 316 ] المسألة الخامسة

                                                      إذا ورد اللفظ العام ، ثم ورد عقيبه تقييد بشرط أو استثناء أو صفة أو حكم ، وكان ذلك لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله العموم ، فهل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض أو لا ؟ فيه قولان ، والمذهب كما قاله ابن السمعاني : أنه لا يجب أن يكون المراد بالعموم تلك الأشياء فقط ، وبه جزم الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، فقال : بل يحمل الأول على عمومه ، والآخر على أنه بيان لبعض حكم الأول . قال : وأبو حنيفة يوافقنا على هذه القاعدة ، وإن خالفنا في مثل : { لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده } . انتهى .

                                                      وجزم به أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام " ، والقفال الشاشي في كتابه ، وابن القشيري وإلكيا الطبري ، والشيخ أبو إسحاق وسليم في " التقريب " ، وابن الصباغ في " العدة " ، وبه جزم أبو بكر الرازي من الحنفية ونقله عن عيسى بن أبان وغيره .

                                                      وقالت الحنفية : إن ذلك يقتضي تخصيصه ، وبه قال القاضي من الحنابلة ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد . قال سليم : وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، وإنما خالفه في اعتبار مسائل خص عموم أولها بخصوص آخر ، كقوله : { لا يقتل مسلم بكافر } الحديث . فحمل أول الحديث على الكافر الحربي والمستأمن ; لأجل آخره . لنا أن العام إنما يخص بما ينافيه . قلت : ونقل الرافعي في أول باب قاطع الطريق عن أكثر العلماء من أصحابنا وغيرهم أن الآية في المسلمين دون الكفار ، وأنهم احتجوا على ذلك بقوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } الآية فدل هذا الاستثناء على أنها في المسلمين . انتهى . وذهب بعض الأصوليين إلى الوقف ، واختاره أبو الحسين البصري في [ ص: 317 ] المعتمد " كذا رأيته فيه ، وكذا حكاه ابن برهان في " الأوسط " ، وابن السمعاني في " القواطع " ، ونقل ابن الحاجب عنه أنه يخصص ، وهو وهم . قلت : ونص عليه الشافعي في " الأم " ونقله عن ابن عباس . واعلم أن للشافعي في المسألة نصا صريحا ، لكن وقع في كلامه ما يقتضي الأمرين ، فأما ما يدل على أنه تخصيص فمواضع :

                                                      أحدها : أنه قال في " الأم " في قوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } : إن الضمير عائد على بعض ما تقدم ، وهو الزرع ، لا النخل والزيتون ، لأن الحصاد لا يكون إلا في الزرع ، فلم يوجب الزكاة إلا في الزرع ، وحمل الإتاء العام عليه ، لأجل الضمير المخصص .

                                                      الثاني : أنه قال في قوله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } : إن هذا وإن كان لفظه عاما للحر والعبد ، إلا أنه خاص بالحر لقوله بعده : { وجاهدوا بأموالكم } والعبد لا يملك .

                                                      الثالث : قوله في الاحتجاج على أن العبد لا يملك الطلاق الثلاث بقوله سبحانه { الطلاق مرتان } . لأنه وإن كان عاما لكنه خاص بالحر ، لأجل قوله : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن } والعبد لا يعطي شيئا .

                                                      الرابع : أنه استدل على أن العبد لا تحل له أربع زوجات بقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } وقال : هذا خاص بالحر ، لقوله { أو ما ملكت أيمانكم } فإن العبد لا يملك . [ ص: 318 ]

                                                      الخامس : آية المحاربة السابقة . وأما المواضع التي تدل على أنه ليس بتخصيص ، فمنها أن ظهار الذمي عنده صحيح مع أن قوله تعالى عقب قوله : { والذين يظاهرون } { وإن الله لعفو غفور } ، وهو لا يكون إلا للمؤمنين . فلم يجعل هذا مخصصا لعموم { الذين يظاهرون } .

                                                      ومنها : أن إيلاء الذمي عنده صحيح ، مع أن قوله تعالى عقبه : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } فلم يجعله مخصصا .

                                                      فخرج من هذا أن للشافعي في المسألة قولين : أصحهما أنه تخصيص كما دل عليه الأكثر من كلامه إلا أن يدل دليل على عدم المخصص ، فيعمل به ، كإيلاء الذمي ، وظهاره .

                                                      وقد مثلوا الاستثناء بقوله تعالى : { إلا أن يعفون } بعد قوله : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء } ومعلوم أن العفو لا يكون إلا من البالغة الرشيدة ، فهل يتخصص النساء بهن ؟ قال صاحب المصادر : وهذا ليس بوزان المسألة ، لأنه إنما يصح لو لم يذكر بعده { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } فقد ذكر حكم البلغ ، وحكم غيرهن .

                                                      ومثال الصفة قوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ، بعد قوله : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } ويعني بالأمر الرغبة في رجعتهن ، ومعلوم أن ذلك لا يتأتى في البائنة ، فكان الأول عاما في المطلقات . قال القفال : ولهذا جعل أصحابنا قوله : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن } فيما يملك الزوج من عدد الطلاق ، وإن كان قوله : { لا تدري لعل الله يحدث بعد [ ص: 319 ] ذلك أمرا } يقتضي تخصيصه بالرجعي .

                                                      ومثال رجوع الضمير قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ، فهذا عام في الرجعية والبائن المدخول بها ، ثم قوله : { وبعولتهن أحق بردهن } ، وهذا لا يتأتى في البائن . وقوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } ، وهذا عام في المسلمين والمشركين ، ثم قال : { لقد تقطع بينكم } وهي خاصة بالمشركين .

                                                      وجعل بعض المتأخرين مدرك الخلاف أن التخصيص : هل يدخل على الأسماء المضمرة ، كما يدخل على الأسماء المظهرة ، كما يدل عليه التخصيص المتصل في مثل قوله تعالى : { ما فعلوه إلا قليل منهم } { فشربوا منه إلا قليلا منهم } فمنهم من قال : أكثر الناس على الدخول ، وتوهم بعض المتأخرين أنه لا يدخل في الضمائر ، لأن المضمر لا يدل بنفسه على جنس من الأجناس . وإنما يعود إلى المذكور أو المعلوم ، فيقل بقلته ، ويكثر بكثرته ، فلا حاجة إلى دخول التخصيص عليه . وهذا ليس بشيء ، لأن موضوعه في اللغة أن يعود إلى ما قبله ، فإذا عاد إلى بعض ما قبله فقد خص ببعض معناه . انتهى .

                                                      وجعل الصيرفي من هذا القسم قوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } إلى قوله { إلا أن يعفون } فأطلق تعالى الاسم على من طلقت بهذه الصفة . وأوجب لها نصف المهر من كل مطلق ، ثم قال : { إلا أن يعفون } فلو كان الضمير راجعا إلى الكل لجاز أن تعفو غير البالغة ، لأنه لو كان نصف الصداق لا يكون إلا على الزوج الذي له العفو لامرآته ، أو لامرآته عليه ، لكان من لا يكون له العفو لا نصف له من الصداق . وإذا بطل هذا علم [ ص: 320 ] أن الخطاب بالعفو في بعض المذكورين في الابتداء ، ثم قال : وكل ما يجوز أن يكون في الابتداء على الإطلاق ، فالضمير راجع إلى هذا الوصف ، والحكم ثابت على ما ثبت . وكل ما لا يصح إلا على الترتيب ، فالحكم له ، وما جاز أن يقع على الجميع ، فالضمير عن جميعه .

                                                      ومثل أيضا بقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } ثم قال : { وإن جاهداك لتشرك بي } فهذا إنما يكون في الكافر ، والأول على عمومه ، وكذا قوله : { يوصيكم الله في أولادكم } الآية ثم قال : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } وقال أبو الحسين بن القطان : الكناية إنما تكون على مذكور متقدم ، فإن لم يكن لم يجز أن يحمل عليه . وقد خاطبنا الله بخطاب مواجهة لم يكن على ما تقدم كقوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } وإنما أراد بكم ، ولو خلينا والظاهر لقلنا فيه إن ذلك ليس بعطف ، لكن لما تقدم ذكر المواجهة ، علمنا عوده إليهم . نظيره قوله تعالى : { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } خرجه الشافعي على قولين :

                                                      أحدهما : أن المراد به الولي ، لأنه لو أراد الزوج لواجهه ، فلما عدل إلى الكناية علمنا أنه لم يرده .

                                                      والثاني : أنه رد الكناية إلى المواجهة ، وهو الزوج لأنه ذكر عفوها وعفو زوجها ، فكنى كما كنى في { جرين بهم } : قال : وهذا يجري في كل موضع إن قام الدليل صرنا إليه ، وإلا حمل على الظاهر . قال : وجعل بعض أصحابنا من هذا أن يعطف شيء فيكون حكم الثاني حكم الأول ، كقوله : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ثم قال : { ومن قتله منكم متعمدا } [ ص: 321 ] فكان الصيد اسما للفعل ، فلما قال : { لا تقتلوا } استحال أن يكون إشارة إلى الفعل ، فعلم أن الإشارة وقعت إلى عين المصيد ، ثم عطف بقوله : { وحرم عليكم صيد البر } فكان المعطوف الثاني على العطف الأول ، وذلك أن أهل اللغة قالوا : إن العطف على حكم المتقدم . قال : ولذلك قال : { أحل لكم صيد البحر } ومن أصحابنا من قال هذا إذا جرين كان للفعل الثاني ، لأن الأول لم يعهد أن يكون للفعل لقيام الدلالة عليه ، وإذا لم نقدر على هذا رجعنا في ذلك إلى الحقيقة في الثاني ، فكان للفعل .

                                                      والأجود أن يقال في هذه الآية : إنه للفعل والمصيد نفسه ، فقد حرم الأمرين جميعا ، لأنه قد يقع على المصيد ، وإذا كان يقع عليه حمل على الأمرين . ومما يبين هذا أن الآية واردة في القسم الأول أنه للفعل قوله : { وحرم عليكم صيد البر } فلا يجوز أن يقال : فعل البر ، وإنما أراد عين المصيد ، ومثل ذلك قوله : { فطلقوهن لعدتهن } ، ثم قال : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } فكان الأول محمولا على البائن والرجعية ، والثاني محمول على الرجعية .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية