الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 24 ] باب جامع الأيمان . ( 8071 ) مسألة ; قال أبو القاسم - رحمه الله تعالى - : ( ويرجع في الأيمان إلى النية ) وجملة ذلك أن مبنى اليمين على نية الحالف ، فإذا نوى بيمينه ما يحتمله ، انصرفت يمينه إليه ، سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ ، أو مخالفا له ، فالموافق للظاهر أن ينوي باللفظ موضوعه الأصلي ، مثل أن ينوي باللفظ العام العموم ، وبالمطلق الإطلاق ، وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الأفهام منها ، والمخالف يتنوع أنواعا ; أحدها ، أن ينوي بالعام الخاص ، مثل أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة . ويريد لحما بعينه ، وفاكهة بعينها .

                                                                                                                                            ومنها ، أن يحلف على فعل شيء أو تركه مطلقا ، وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه ، مثل أن يحلف : لا أتغدى . يعني اليوم ، أو : لآكلن . يعني الساعة . ومنها ، أن ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه ، كما ذكرنا في المعاريض ، في مسألة إذا تأول في يمينه فله تأويله . ومنها ، أن يريد بالخاص العام ، مثل أن يحلف : لا شربت لفلان الماء من العطش . ينوي قطع كل ما له فيه منة ، أو : لا يأوي مع امرأته في دار . يريد جفاءها بترك اجتماعها معه في جميع الدور ، أو حلف : لا يلبس ثوبا من غزلها . يريد قطع منتها به ، فيتعلق يمينه بالانتفاع به ، أو بثمنه ، مما لها فيه منة عليه . وبهذا قال مالك .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه ; لأن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين ، واليمين لفظه ، فلو أحنثناه على ما سواه ، لأحنثناه على ما نوى لا ، على ما حلف ، ولأن النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين ، فكذلك لا يحنث بمخالفتها .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه نوى بكلامه ما يحتمله ، ويسوغه في اللغة التعبير به ، عنه ، فينصرف يمينه إليه كالمعاريض ، وبيان احتمال اللفظ ، أنه يسوغ في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام ، قال الله تعالى : { ما يملكون من قطمير } . { ولا يظلمون فتيلا } . { فإذا لا يأتون الناس نقيرا } والقطمير : لفافة النواة .

                                                                                                                                            والفتيل ما في شقها .

                                                                                                                                            والنقير : النقرة التي في ظهرها . ولم يرد ذلك بعينه ، بل نفي كل شيء ،

                                                                                                                                            وقال الحطيئة يهجو بني العجلان :

                                                                                                                                            ولا يظلمون الناس حبة خردل

                                                                                                                                            ولم يرد الحبة بعينها ، إنما أراد لا يظلمونهم شيئا . وقد يذكر العام ، ويراد به الخاص ، كقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } - يعني رجلا واحدا - . { إن الناس قد جمعوا لكم } . يعني أبا سفيان . وقال تعالى : { تدمر كل شيء } . ولم يرد السماء والأرض ولا مساكنهم . وإذا احتمله اللفظ ، وجب صرف اليمين إليه ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما لامرئ ما نوى " . ولأن كلام الشارع يحمل على مراده ، إذا ثبت ذلك بالدليل ، فكذلك كلام غيره . وقولهم : إن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين . قلنا : وهذا كذلك ، فإنما انعقدت عليه اليمين على ما نواه ، ولفظه مصروف إليه ، وليست هذه نية مجردة ، بل لفظ منوي به ما يحتمله . [ ص: 25 ] فصل : ومن شرط انصراف اللفظ إلى ما نواه ، احتمال اللفظ له ، فإن نوى ما لا يحتمله اللفظ ، مثل أن يحلف لا يأكل خبزا ، يعني به لا يدخل بيتا ، فإن يمينه لا تنصرف إلى المنوي ; لأنها نية مجردة ، لا يحتملها اللفظ ، فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية