الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ الفرق بين التخصيص والنسخ ]

                                                      واعلم أن التخصيص شديد الشبه بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص الحكم بنقض ما يتناوله اللفظ ، وقد فرقوا بينهما من وجوه .

                                                      أحدها : أن التخصيص ترك بعض الأعيان ، والنسخ ترك بعض الأزمان ، قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني . [ ص: 328 ]

                                                      الثاني : أن التخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال بخلاف النسخ ، فإنه لا يتناول إلا الأزمان . قال الغزالي : وهذا ليس بصحيح ، فإن الأعيان والأزمان ليسا من أفعال المكلفين ، والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان ، والتخصيص يرد على الفعل في بعض الأحوال .

                                                      الثالث : التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد بخلاف النسخ ، فإنه يكون لكل الأفراد . وعلى هذا فالنسخ أعم ، قاله البيضاوي . لكن اختار إمامه خلافه ، فإنه قال : النسخ لا معنى به إلا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص ، فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص . وقد سبقه إلى ذلك الأستاذ فيما نقله عن إمام الحرمين في كتاب " النسخ " فقال : صرح الأستاذ بأن النسخ تخصيص في الزمان ، واعترض عليه .

                                                      الرابع : وحكاه القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا أن التخصيص تقليل ، والنسخ تبديل . وقال : هذا لفظ جميل ، ولكن ريعه قليل ، ومعناه مستحيل ، لأن الردة تبديل ، وليست بنسخ ، قال تعالى : { فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه }

                                                      الخامس : أن النسخ يتطرق إلى كل حكم ، سواء كان ثابتا في حق شخص واحد ، أو أشخاص كثيرة ، والتخصيص لا يتطرق إلى الأول ، ومنهم من عبر عنه بأن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد ، والنسخ يدخل فيه .

                                                      السادس : أن التخصيص يبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة [ ص: 329 ]

                                                      كان أو مجازا على الخلاف ، والنسخ يبطل دلالة حقيقة المنسوخ في مستقبل الزمن بالكلية .

                                                      السابع : أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ ، وأما التخصيص فلا يجوز تأخيره عن وقت العمل بالمخصوص وفاقا .

                                                      الثامن : أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى ، ولا يجوز التخصيص . قال القرافي : وهذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيرا ، والمراد أن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة ، أما كلها فلا ، لأن قواعد العقائد لم تنسخ ، وكذلك حفظ الكليات الخمس ، فحينئذ النسخ إنما يقع في بعض الأحكام الفرعية ، وإن جاز نسخ شريعة بشريعة أخرى عقلا .

                                                      التاسع : أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته ، بخلاف التخصيص فإنه بيان المراد باللفظ العام ، ذكره القفال الشاشي والعبادي في زياداته ، وهذا على رأي القاضي ، وأما على رأي غيره ، فينبغي أن نقول : انتهاء حكم بخلاف التخصيص .

                                                      العاشر : أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم ، والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ ، ذكره الماوردي .

                                                      الحادي عشر : أن التخصيص يجوز أن يكون مقترنا بالعام ، ومقدما عليه ، ومتأخرا عنه ، ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدما على المنسوخ ، ولا مقترنا به ، بل يجب أن يتأخر عنه .

                                                      الثاني عشر : أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب ، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع ، ويقع التخصيص بالإجماع ، والنسخ لا يقع به .

                                                      الثالث عشر : يجوز التخصيص في الأخبار والأحكام ، والنسخ يختص بأحكام الشرع . [ ص: 330 ]

                                                      الرابع عشر : التخصيص على الفور ، والنسخ على التراخي ، ذكره الماوردي ، وفي هذا نظر .

                                                      الخامس عشر : أن تخصيص المقطوع بالمظنون واقع ، ونسخه لا يقع به .

                                                      السادس عشر : أن التخصيص لا يدخل في غير العام ، بخلاف النسخ ; فإنه يرفع حكم العام والخاص .

                                                      السابع عشر : أنه يجوز نسخ الأمر بخلاف التخصيص على خلاف فيه .

                                                      الثامن عشر : أن التخصيص يؤذن بأن المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه ، والنسخ يحقق أن كل ما يتناوله اللفظ مراد في حال الحال ، وإن كان غير مراد فيما بعده ، وكان اللفظ المطلق لا يدل على الزمان أصلا ، وإنما يدل على الفعل ، ثم الزمان ظرف .

                                                      واعلم أن هذه الفروق أكثرها أحكام أو لوازم ثابتة لأحدهما دون الآخر .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية