الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8159 ) مسألة ; قال : ( ولو حلف أن لا يكلمه ، فكتب إليه ، أو أرسل إليه رسولا ، حنث ، إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه ) أكثر أصحابنا على هذا . وهو مذهب مالك ، والشافعي . وقد روى الأثرم وغيره ، عن أحمد ، في رجل حلف أن لا يكلم رجلا ، فكتب إليه كتابا ، قال : وأي شيء كان سبب ذلك ؟ إنما ينظر إلى سبب يمينه ، ولم حلف إن الكتاب قد يجري مجرى الكلام ، والكتاب قد يكون بمنزلة الكلام في بعض الحالات .

                                                                                                                                            وهذا يدل على أنه لا يحنث بالكتاب ، إلا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي هجرانه ، وترك صلته ، وإن لم يكن كذلك ، لم يحنث بكتاب ولا رسول ; لأن ذلك ليس بتكلم في الحقيقة ، وهذا يصح نفيه ، فيقال : ما كلمته ، وإنما كاتبته أو راسلته . ولذلك قال الله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } . وقال : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } .

                                                                                                                                            وقال : { وكلم الله موسى تكليما } . ولو كانت الرسالة تكليما ، لشارك موسى غيره من الرسل ، ولم يختص بكونه كليم الله ونجيه . وقد قال أحمد ، حين مات بشر الحافي : لقد كان فيه أنس ، وما كلمته قط . وقد كانت بينهما مراسلة ، وممن قال : لا يحنث بهذا . الثوري ، وأبو حنيفة ، وابن المنذر ، والشافعي في الجديد .

                                                                                                                                            واحتج أصحابنا بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي } . فاستثنى الرسول من التكلم ، والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، ولأنه وضع لإفهام الآدميين ، أشبه الخطاب .

                                                                                                                                            والصحيح أن هذا ليس بتكلم ، وهذا الاستثناء من غير الجنس ، كما قال في الآية الأخرى : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } . والرمز ليس بتكلم ، لكن إن نوى ترك مواصلته ، أو كان سبب يمينه [ ص: 63 ] يقتضي هجرانه ، حنث ; لذلك ، ولذلك ، قال أحمد : إن الكتاب يجري مجرى الكلام ، وقد يكون بمنزلة الكلام .

                                                                                                                                            فلم يجعله كلاما ، إنما قال هو بمنزلته في بعض الحالات إذا كان السبب يقتضي ذلك . وإذا أطلق ، احتمل أن لا يحنث ; لأنه لم يكلمه . واحتمل أن يحنث لأن الغالب من الحالف هذه اليمين قصد ترك المواصلة ، فتعلق يمينه بما يراد في الغالب ، كقولنا في المسألة قبلها . والله أعلم .

                                                                                                                                            ( 8160 ) فصل : وإن أشار إليه ، ففيه وجهان ; قال القاضي : يحنث ; لأنه في معنى المكاتبة والمراسلة في الإفهام ، والثاني لا يحنث ذكره أبو الخطاب ; لأنه ليس بكلام ، قال الله تعالى لمريم عليها السلام { : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } . إلى قوله : { فأشارت إليه } .

                                                                                                                                            وقال في زكريا { : آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } . إلى قوله : { فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } . ولأن الكلام حروف وأصوات ، ولا يوجد في الإشارة ، ولأن الكلام شيء مسموع ، وتبطل به الصلاة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم { : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس } والإشارة بخلاف هذا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } . قلنا : هذا استثناء من غير الجنس ، بدليل ما ذكرنا ، وصحة نفيه عنه ، فيقال : ما كلمه ، وإنما أشار إليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية