الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 449 ] 712 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجمه من رجمه من اليهود : هل كان ذلك بشهادة من سواهم من اليهود عليهم ؟ وما يدخل في ذلك من قبول شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض ، ومن ردها فإن قال قائل : قد رويتم حديث ابن عمر أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم زنيا ، وكان مجيئهم بهما يدل أنهما أتياه باختيارهما ، ويدل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالهم أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم من المسلمين ليشهدوا على ما رموهما به من ذلك ، وفي تركه لذلك دليل على قبوله شهادة من جاء بهم إليه من اليهود عليهم بذلك ، وكذلك في حديث البراء لما مر عليه صلى الله عليه وسلم باليهودي المحمم رأسه ، فأعلموه بالزنى الذي كان منه حتى فعلوا ذلك به من أجله ، وليس فيه إقرار من ذلك اليهودي بما ذكروه عنه من ذلك ، ولا تصديق له إياهم [ ص: 450 ] عليه ، وإنما كان منهم إعلامهم النبي صلى الله عليه وسلم ما كان منه ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : " أنا أولى من أحيا ما أماتوا من أمر الله " ، فرجمه . ففي ذلك ما قد دل على قبول شهاداتهم كانت عليه بذلك . فكان جوابنا له في ذلك أن الأمر في ذلك كما ذكروا فيه ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بأكشف من هذين الحديثين .

4545 - كما حدثنا روح بن الفرج ، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان الرازي ، أخبرنا مجالد ، عن عامر ، عن جابر قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود : ما يمنعكم أن تقيموا عليهما الحد ؟ " فقالوا : قد كنا نفعل إذ كان الملك لنا وفينا ، فأما إذ ذهب ملكنا ، فلا نجترئ على القتل ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " ، فأتوه بابنيصوريا ، فقال لهما : " أنتما أعلم من وراءكما ؟ " قالا : كذلك يقولون ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدكما بالذي أنزل التوراة على موسى ، كيف تجدون حدهما في التوراة ؟ " فقالا : نجد في التوراة : الرجل يقبل المرأة زنية ، وفيه عقوبة ، والرجل يوجد على بطن المرأة زنية ، وفيه عقوبة ، فإذا شهد أربعة نفر أنهم رأوه يدخله في فرجها كما يدخل الميل في المكحلة رجما ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائتوني بشهود " ، فشهد أربعة منهم على ذلك ، فرجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 451 ] قال أبو جعفر : وكذلك وجدنا المتقدمين من أئمة الأمصار في الفقه في قبول شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض وإن كانوا قد اختلفوا في ذلك مع اختلاف مللهم ، فأما في اتفاقها ، فلم يختلفوا في ذلك ، منهم شريح ، وهو قاضي الخلفاء الراشدين المهديين ; عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم .

كما قد حدثنا الحسين بن نصر ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن شيخ ، عن يحيى بن وثاب ، عن شريح أنه كان يجيز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض .

[ ص: 452 ] ومنهم : عمر بن عبد العزيز مع علمه وأمانته وموضعه من الإسلام .

كما قد حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، أخبرنا عمرو بن ميمون أن عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة مجوسي على نصراني ، ونصراني على مجوسي .

ومنهم : الشعبي .

كما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا أبو عامر العقدي ، عن سفيان ، عن أبي الحصين ، عن الشعبي أنه كان يجيز شهادة النصراني [ ص: 453 ] على اليهودي ، واليهودي على النصراني .

وكما حدثنا الحسين بن نصر ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن الشعبي أنه كان يجيز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض .

ومنهم : ابن شهاب الزهري .



كما حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : تجوز شهادة النصراني واليهودي بعضهم على بعض ، ولا تجوز شهادة اليهودي على النصراني ، ولا النصراني على اليهودي . ، [ ص: 454 ]

وكما حدثنا إبراهيم بن منقذ ، حدثني إدريس بن يحيى ، عن بكر بن مضر ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : كان يقول : شهادة النصراني على النصراني ، وكان يرى شهادة اليهودي على النصراني ، أو النصراني على اليهودي لا تجوز .

ومنهم : يحيى بن سعيد الأنصاري .



كما حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، حدثني معاوية بن صالح أنه سمع يحيى بن سعيد يقول : .... ثم ذكر مثل حديثه عن ابن وهب ، عن [ ص: 455 ] يونس ، عن ابن شهاب سواء .

قال أبو جعفر : وقد تمسك بذلك من قولهم الليث بن سعد .

كما قد حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب قال : سمعت الليث يقول ذلك ، يعني مثل الذي ذكره ، عن ابن شهاب ويحيى بن سعيد .

قال أبو جعفر : وهؤلاء أئمة الأمصار وفقهاؤهم .

وقد سمعت يونس يقول : سمعت ابن وهب يقول : خالف مالك بن أنس معلميه في رد شهادة النصارى بعضهم على بعض ، كان ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة يجيزونها .

قال أبو جعفر : ولقد سمعت أحمد بن أبي عمران يقول : سمعت يحيى بن أكثم يقول - وذكر هذا الباب - ، فقال : جمعت فيه قول مائة فقيه من المتقدمين في قبول شهادات أهل الكتاب بعضهم على بعض ، وما وجدت فيه اختلافا من أمثالهم لهم في ذلك إلا عن ربيعة ، فإني وجدت عنه قبولها ، ووجدت عنه ردها .

وقال قائل : كيف يجوز قبول شهادتهم مع الكفر الذي هم عليه بالله عز وجل ؟ قال : وإذا كان فساقنا بما هو دون الكفر لا تقبل شهادتهم ، كان الكفار من غيرنا أحرى أن لا تقبل شهادتهم .

فكان جوابنا له في ذلك أن الكفر الذي أهل الكتاب عليه لم [ ص: 456 ] يخرجهم من حال ولاية بعضهم بعضا في تزويج بناتهم ، وفي الولاية على صغارهم ممن هم آباؤهم في البيع لهم ، وفي الابتياع لهم ، وكان مثل ذلك لا يجوز من فساقنا في أمثال من ذكرنا من أبنائهم ، وكان من كان من فساقنا واجب علينا منابذته ، وترك إقراره على ما هو عليه من فسقه حتى نزيله عنه إلى الواجب عليه بالشريعة التي هو من أهلها ، وكان أهل الكتاب بخلاف ذلك ، إذ كانوا مخلين على حكم شريعتهم غير مأخوذين بترك ذلك ، ولا بالزوال عنه إلى غيره ، وإذا كانوا فيما ذكرنا كذلك ، كانوا بخلاف الفساق منا ، وكانوا في سائر ما في شريعتهم كنحن في ما توجبه شريعتنا ، وممن كان يذهب إلى هذا القول أبو حنيفة وابن أبي ليلى والثوري ، وسائر الكوفيين سواهم ، إلا ما يختلفون فيه من مللهم إذا اختلفت ، فإن أبا حنيفة كان لا يراعي ذلك ، وتابعه عليه أصحابه ، وكان ابن أبي ليلى وكثير منهم يخالفونهم في ذلك ، ولا يقبلون شهادة أهل ملة منهم على غيرهم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية