الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " والأيمان في الدماء مخالفة لها في الحقوق ، وهي في جميع الحقوق يمين ، وفي الدماء خمسون يمينا . وقال في كتاب العمد : ولو ادعى أنه قتل أباه عمدا فقال : بل خطأ ، فالدية عليه في ثلاث سنين بعد أن يحلف ما قتله إلا خطأ ، فإن نكل حلف المدعي لقتله عمدا وكان له القود . ( قال المزني ) : هذا القياس على أقاويله في الطلاق والعتاق وغيرهما في النكول ورد اليمين " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : الدعاوى ضربان في دم وغير دم . فأما الدعاوى في غير الدماء فلا تغلظ بغير الزمان والمكان ، فلا يبدأ فيها بيمين المدعي ولا تكرر فيها الأيمان ، ولا يستحق فيها إلا يمين واحدة ، سواء كان مع الدعوى لوث أو لم يكن : لقصور ما سوى الدماء عن تغليظ الدماء . وأما الدعاوى في الدماء ، فضربان : في نفس وطرف . فأما في النفوس فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يقترن بالدعوى لوث فتغلظ بالقسامة في حكمين :

                                                                                                                                            أحدهما : تبدئة المدعي وتقديمه على المدعى عليه ، وهذا يستوفى فيه حكم كل من كملت له ديته أو نقصت . [ ص: 24 ] والثاني : تغليظ الأيمان بخمسين يمينا ، وهذا معتبر بحالة المقتول ، فإن كملت فيه الدية بأن كان رجلا حرا مسلما كمل فيه تغليظ الأيمان بخمسين يمينا . وإن لم تكمل فيه الدية ، بأن كان امرأة وجبت فيها نصف الدية ، وكان ذميا وجب فيه ثلث الدية ، ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : تسقط الأيمان على كمال الدية فتغلظ في قتل المرأة بخمسة وعشرين يمينا ، وفي قتل الذمي بسبعة عشر يمينا : ليقع الفرق في التغليظ بين حكم القليل والكثير اعتبارا بالدية .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : - وهو أصح - أنها تغلظ في كل قتيل بخمسين يمينا ممن قلت ديته وكثرت ، حتى في دية الجنين : لأنه لما استوى التغليظ بالكفارة في قتل جميعهم ، كذلك في التغليظ بأيمان القسامة . فإذا تقرر أن المدعي يحلف خمسين يمينا لم يخل أن يكون واحدا أو جماعة ، فإن كان واحدا حلف جميعها ووالى بينها ولم يفرقها : لأنها في الموالاة أغلظ وأزجر . فإن حلف أكثرها ونكل عن أقلها - ولو بيمين واحدة - لم يستحق بما تقدم من أيمانه شيئا من الدية : لتعلق الحكم بجميعها . وإن كانوا جماعة ففي أيمانهم قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا ، يستوي فيها من قل سهمه في الدية وكثر : لأن تكرار الأيمان موضوع للتغليظ والزجر ، وليس يزجر الواحد منهم إلا بأيمان نفسه ، فوجب أن يستوفى حقه . فعلى هذا : إن أقسموا جميعا ، قضي لهم بجميع الدية واقتسموا على قدر مواريثهم . فإن حلف بعضهم ونكل البعض ، قضي للحالف بحقه من الدية دون الناكل .

                                                                                                                                            والقول الثاني : - وهو الأصح - أن الأيمان مقسومة بينهم على قدر مواريثهم بجبر الكسر . فإن كانوا زوجة وابنا وبنتا ، حلفت الزوجة سبعة أيمان ، والابن ثلاثين يمينا ، والبنت خمس عشرة يمينا ، ثم على قياسه : لأن التغليظ بعدد الأيمان يختص بالدعوى ، وهم فيها مشتركون ، فوجب أن يكونوا في تغليظ أيمانها مشتركين . فعلى هذا : إن حلفوا قضي لهم بجميع الدية ، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم لم يحكم للحالف بحقه من الدية إلا بعد استكمال خمسين يمينا . فإن طالب الناكل لم يستحق شيئا بيمين غيره ، وإن استوفى الحاكم جميع الأيمان ، حتى يحلف عدد أيمانه التي تلزمه بقدر حقه . /0 فإن نكل جميعهم عن الأيمان ، ردت على المدعى عليه ، فإن كان واحدا حلف خمسين يمينا : لأن الأيمان لما غلظت في جنبة المدعي ، وجب أن تغلظ في نقلها إلى المدعى عليه : لتتكافأ الجنبتان في التغليظ . فإن كان المدعى عليهم جماعة ، ففي أيمانهم قولان : [ ص: 25 ] أحدهما : - وهو الأصح ها هنا - أن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينا . والأصح في المدعين : أن تقسط بينهم : لأن كل واحد من المدعى عليهم كالمنفرد في وجوب القود والتزام الكفارة ، فكان كالتفرد في عدد الأيمان ، وخالف المدعين : لأن الواحد من الجماعة لا يساوي المنفرد فيها فافترق .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن الأيمان مقسطة بينهم على أعدادهم بجبر الكسر ، يستوي فيه الرجل والمرأة بخلاف أيمان المدعين : لأن المدعين يتفاضلون في ميراث الدية فيفاضلوا في الأيمان ، والمدعى عليهم يستوون في التزام الدية فيساووا في الأيمان . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية